قلت في شرحي الذي شرحته لكتاب الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - المسمى بشرح " معاني الآثار " أراد بالقوم هؤلاء سالماً وسعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وجعفر بن الزبير وعبد الله بن عبيد الله بن عتبة، وأبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام.
فإنهم قالوا المستحب هو القص لا الإحفاء، وإليه ذهب حميد بن هلال والحسن البصري ومحمد بن سيرين وعطاء بن أبي رباح وبكر بن عبد الله ونافع بن جبير وعراك بن مالك والإمام مالك، وقال عياض: ذهب كثير من السلف إلى منع الحلق والاستئصال في الشارب، وكان مالك يرى حلقه مثلة، ويأمر بتأديب فاعله، ثم قال الطحاوي وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا بل يستحب إحفاء الشارب ويراه أفضل من قصه، انتهى.
قلت: أراد بهم جمهور السلف منهم أهل الكوفة ومكحول ومحمد بن عجلان ونافع مولى ابن عمر وأبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأبو يوسف ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإنهم قالوا المستحب إحفاء الشارب وهو أفضل من قصه، وروي ذلك عن عبد الله بن عمر وأبي سعيد الخدري ورافع بن خديج وسلمة بن الأكوع وجابر بن عبد الله وأبي أسيد وعبد الله بن عمر.
واحتجوا في ذلك بما رواه الطحاوي من حديث ابن عمر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:«أحفوا الشوارب وأعفوا عن اللحى» ، وأخرجه مسلم والترمذي، وبما رواه عن أنس عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مثله، وزاد:«ولا تشبهوا باليهود» ، وأخرجه البزار في " مسنده " ولفظه: «خالفوا المجوس جزوا الشوارب وأوفوا اللحى» ، وبما رواه عن أبي هريرة - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «جزوا الشوارب أرخوا اللحى» ، وأخرجه مسلم.
والإحفاء الاستئصال، قال الخطابي: يقال أعفى شاربه ورأسه، وقال ابن دريد حفى شاربه حفياً إذا استأصل أخذ شعره، ومنه قوله أحفوا الشوارب، وقال الجوهري الإحفاء مصدر من قولهم أحفى شاربه إذا استقصى في أخذه.
قلت: أراد الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بتبويب باب الحلق الإحفاء، لأن لفظ الحلق لم يرد. والحاصل أن الإحفاء للاستئصال حتى يرى جلده، وكان ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يحفي حتى يرى جلده ويعلم من هذا كله أن الإحفاء أفضل من القص، وهو خلاف ما ذهب إليه المصنف من أن لفظ الأخذ هو السنة، لأن الإحفاء أوفى من الأخذ.
وقال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وذكر الطحاوي في " شرح الآثار " أن حلقه سنة ونسب ذلك إلى العلماء الثلاثة، انتهى.