وقال الكاكي: قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا أدري ما الدهر، لأن الناس يستعملونه بمعنى الحين والزمان، وبمعنى الأبد، ألا ترى أن معرفته على الأبد بخلاف الحين والزمان، لأن معرفتهما ومنكرهما سواء يقال فلان دهري بضم الدال إذا كان معمرًا، ودهري بالفتح إذا قال بالدهر وأنكر الصانع، قال تعالى: حكاية عنهم {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ}[الجاثية: ٢٤](الجاثية: الآية ٢٤) ، فكان مجملًا، فلم يقف على مراد المتكلم، والترجيح بلا دليل لا يجوز، فكان قوله لا أدري من كمال علمه وورعه.
وروي أن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - سئل عن شيء، فقال: لا أدري ثم قال: بعد ذلك طوبى لابن عمر سئل عن شيء لا يدري فقال: لا أدري. ثم قيل إنما قال لا أدري ثم قال بعد ذلك حفظًا للسانه عن الكلام في معنى الدهر، فقد جاء في الحديث أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:«لا تسبوا الدهر، فإن الله هو الدهر» ، معناه أنه خالق الدهر.
وقد جاء في حديث آخر أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: حكاية عن الله عز وجل: «استقرضت من عبدي وأبى أن يقرضني وهو يسبني ولا يدري سب الدهر ويقول إنما أنا الدهر» وكما روي «أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - سئل عن خير البقاع فقال: لا أدري حتى أسأل ربي فصعد ثم نزل، فقال: سألت الله عز وجل خير البقاع مساجدها، وخير أهلها من يكون أول الناس دخولًا وآخرهم خروجًا» ، فعرفنا أن الوقت في مثل هذا من الكمال لا من النقصان، كذا في " المبسوط " و " جامع فخر الإسلام " و " قاضي خان ".
وقيل: وجه قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - مع أن الدهر لا نص عليه عنه عن أحد من أهل اللغة، ودلالة متعارضة فيجب التوقف فيه. ألا ترى إلى قَوْله تَعَالَى {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ}[الجاثية: ٢٤](الجاثية: الآية ٢٤) ، وإلى قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تسبوا الدهر، فإن الله هو الدهر» . ولهذا قال صاحب الحمرة: الدهر معروف. ثم قال: وقال يوم الدهر مدة الدنيا من ابتدائها إلى انقضائها وقال آخرون بل دهر كل قوم هو زمانهم.
وقال ثعلب في " التتمة ": الدهر الزمان الليل والنهار لا خير لك. ثم أنشد:
أهل الدهر إلا ليلة ونهارها ... إلى طلوع الشمس ثم غبارها
فلما لم يثبت العرف فيه لم يصح إلحاق الدهر والحين قياسًا، لأن درك اللعان بالقياس لا يستقيم. ولهذا إذا ذكر الدهر معرفًا يقع على الأبد اتفاقًا على ظاهر الرواية بخلاف الحين والزمان، ولو قال: لا أكلم حينًا فهو على ثمانين سنة عندنا، وعند أحمد، وعند مالك -