فإن قلت: المرجح هنا المحرم. قلت: يقوى المبيح بقوله تعالى {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}[الحج: ٧٨](الحج: الآية ٧٨) ولأن المحرم لا يرجح عند تعارض الحاجة والضرورة كما في الهرة.
فإن قلت: لا يصير الماء مشكوكا بتعارض الخبرين كما في مسألة خبر العدلين أحدهما: أخبر بطهارة الماء، والآخر بنجاسته. قلت: لا تعارض ثمة لأنه أمكن ترجيح أحدهما، فإن المخبر عن طهارته لو استقصى ذلك وقال: أخذته من البئر وسددت فم الماء ولم يخالطه شيء ورجحنا خبره لفائدة بالأصل وإن كان مبنى خبره على الاستصحاب رجحنا خبر النجاسة؛ لأنه أخبر عن محسوس مشاهد، فأما في سؤر الحمار فالتعارض قائم؛ لأن لحمه نجس وعرقه طاهر، والبلوى فيه من وجه دون وجه فلا يمكن إلحاقه بأحدهما فوجب المصير إلى ما كان ثابتا فلا يطهر به نجس ولا ينجس به طاهر، فإن عرف الماء طاهرا فوجب أن يبقى كذلك، فإن اليقين لا يزول بالشك.
قلت: وجب أن يكون مشكوكا فيه كلعاب الحمار؛ لأن الماء إذا أصابه شيء يوصف بصفة بصنعة ذلك الشيء، والأصح في التمسك أن دليل الشك هو تردد في الضرورة، فإن الحمار يربط في الدور والأبنية ويشرب من الأواني وللضرورة أثر في إسقاط النجاسة كما في الهرة والفأرة إلا أن الضرورة دون الضرورة فيهما لدخولهما تضايق البيت بخلاف الحمار، ولو لم تكن الضرورة ثابتة أصلا كما في الكلب والسباع لوجب الحكم بالنجاسة بلا إشكال، ولو كانت الضرورة فيهما لوجب الحكم بإسقاط النجاسة، فلما ثبتت الضرورة من وجه دون وجه واستوى موجب النجاسة والطهارة تساقطا للتعارض فوجب المصير إلى الأصل، والأصل هاهنا بيان الطهارة في جانب الماء والنجاسة في جانب اللعاب؛ لأن لعابه نجس كما بينا وليس أحدهما بأولى من الآخر فبقي الأمر مشكلا نجسا من وجه طاهرا من وجه، فكان الإشكال عند علمائنا بهذا الطريق لا للإشكال في لحمه ولا لاختلاف الصحابة في سؤره، وبهذا التقدير يندفع كثير من الأسئلة.
وقال الأكمل: وهاهنا نكتة لا بأس بالتنبيه عليها وبناءها على كون المراد بالنجاسة إما قبل الذبح أو بعده ثم بعد التطويل، قال: نعلم من هذا أن اللعاب المتولد من اللحم مأكول بعد الذبح طاهر بلا كراهة دون غيره إضافة الحكم إلى الفأر في صيانة حكم الشرع عن المناقضة ظاهرا هذا ما سنح لي والله أعلم.
قلت: لا دخل في الذبح وتفصيله هاهنا، والكلام في حكم السؤر وهو لا يتصور بعد الذبح والأصل في هذا الباب اللعاب، فإن كان من حيوان مأكول كان طاهرا فسؤره طاهر، وإن كان من حيوان غير مأكول كان نجسا فسؤره نجس إلا أنه خولف فيه في سؤر الحمار مع كونه غير مأكول وسؤره طاهر كما ذكرنا من الوجوه فيه.