وأما الوجه الثاني: وهو أن يكفر قضاء لا ديانة فيما إذا خطر بباله الخبر بالكفر عما مضى بالكذب ولم أرد به كفرا مستقبلا، وإنما كفر قضاء لأنه عدل عما أكره عليه لأنه أكره على إنشاء الكفر لا على الإخبار عن الماضي والإخبار عن الإنشاء، فكان طائعا في الإخبار.
ومن أقر بالكفر فيما مضى طائعا ثم قال عنيت به الكذب لا يصدقه القاضي لأنه خلاف الظاهر، لأن الظاهر هو الصدق حالة الطواعية، ولكن يصدق ديانة لأنه ادعى ما يحتمله لفظه.
وأما الوجه الثالث: وهو أنه يكفر قضاء وديانة فيما إذا قال خطر على بالي الإخبار عن الكفر الماضي بالكذب ولم أرد ذلك بل أردت كفرا مستقبلا جوابا لكلامهم، وذلك لأنه أنشأ كفرا طائعا، ومن أنشأ كفرا طائعا يكفر قضاء وديانة، وإنما قلنا: إنه طائع لأنه لما خطر بباله الإخبار بالكفر الماضي كاذبا أمكنه التخلص عما أكره عليه بالأدنى، لأن الإخبار دون الإنشاء، ألا ترى أنه لو أكره على إقرار بالعتق فأقر لا يعتق العبد، ولو أكره على العتق فأعتق يعتق.
ولو قيل له: لنقتلنك أو لتصلين لهذا الصليب فالمسألة على ثلاثة أوجه: إما أن يقول خطر على بالي أن أصلي لله وقد صليت له ولم أصل للصليب، أو يقول خطر ببالي أن أصلي لله فلم أفعل ذلك وصليت للصليب، أو يقول لم يخطر ببالي شيء وقد صليت للصليب مكرها.
ففي الأول: لا يكفر، لأنه صلى لله لا للصليب. ولا فرق أن يكون مستقبل القبلة أو غير مستقبلها، وبه صرح الكرخي في مختصره. وأما إذا قال خطر على بالي أن أصلي لله تعالى وتركت ذلك وصليت للصليب فإنه يكفر قضاء وديانة لأنه صلى للصليب طائعا، لأنه لما خطر على باله أن يصلي لله تعالى فقد أمكنه دفع الإكراه، لأن المكره لا يعرف أنه يصلي لله دون الصليب لأنه لا اطّلاع له على ما في ضميره، فإذا أمكنه دفع الإكراه بهذا القدر كان طائعا في الصلاة للصليب، ومن صلى للصليب طائعا كفر قضاء وديانة. فأما إذا قال لم يخطر ببالي شيء وقد صليت للصليب مكرها لا يكفر أصلا قضاء ولا ديانة، لأنه فعل ذلك مكرها وقلبه مطمئن بالإيمان.
ولو أكره على شتم محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فشتمه فالمسألة على ثلاثة أوجه أيضا: إما أن يقول خطر على بالي محمد آخر رجل من النصارى فأردت بالشتم ذلك الرجل النصراني أو يقول خطر على بالي رجل من النصارى اسمه محمد فلم أشتمه وإنما شتمت محمدا - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وأنا غير راض بذلك. أو يقول لم يخطر على بالي شيء فشتمت محمدا كما طلب مني وأنا غير راض بذلك.