للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولصعوبة قيام جيوشها النظامية بتعقب القبائل المغيرة وملاحقتها في البادية، عمدت إلى استرضاء سادات القبائل الكبيرة ذات العدد الكبير، بالهدايا والمنح المالية المغرية وبالامتيازات وبالألقاب للقيام بحراسة الحدود ومراقبتها، وبتعقب القبائل التي قد تتجاسر فتغزو الحدود، منتهزة مواطن الضعف والثغرات. فالتجأ الساسانيون إلى عرب "الحيرة"، والتجأ البيزنطيون إلى الضجاعمة وإلى أهل تدمر والغساسنة فيما بعد؛ للقيام بهذه المهمة.

ولم تكن مهمة حفظ الحدود مهمة سهلة هينة، حتى على أهل البادية أنفسهم، فمنطق القبائل: إن القبيلة إذا كانت قوية ذات بأس، وشعرت بقوتها، جاز لها أن تطلب لنفسها ما تشاء وأن تغزو من تشاء كائنًا من كان. وطالما صار من توكل إليه حراسة الحدود نفسه هدفًا للغزو؛ لأنه لم يطعم الغازين، ولم يقدم لهم ما يرضيهم من ترضيات وأعطيات، أو لأن الغازين رأوا في قرارة أنفسهم أنهم أحق بحماية الحدود من الذين يقومون بحمايتها في هذا الزمن؛ ولهذا يرون وجوب انتزاعها منهم بالقوة، كما انتزعها هؤلاء القائمون بالحماية ممن سلفهم؛ فلا يكون أمام الدول الكبرى غير الموافقة والتسليم، ودفع الجعالات التي كانوا يدفعونها إلى الحرس القديم، وإلى الحرس الجدد الذين أظهروا قوة فاقت قوة القدماء في ميدان التنافس والقتال, وما الذي يهم الدول الكبرى في مثل هذه المواقف غير حماية الحدود.

ومع رغبة الدول الكبرى في التعامل جهد الإمكان مع أصحابهم القدماء الذين اطمأنوا إليهم، فأوكلوا لهم حراسة حدودهم، وكانوا يهددون ذلك الحرس بجعل حراستهم إلى خصومهم ومنافسيهم إذا ما شعروا بسوء نيتهم أو طمعهم أو إلحافهم في زيادة الجعالات، أو بضعف أو تهاون في الدفاع عن الحدود وفي إنزال القصاص بالمغيرين. وقد يوكلون الحراسة في الحالات الشاذة إلى قوادهم الأشداء؛ لتعقب المغيرين، وإنزال ضربات شديدة بهم، إلى أن يتفقوا مع حارس جديد أو أن يتفق أهل الحارس القديم على اختيار شخص جديد كما في حالات وفاة أحد رؤساء آل نصر أو آل غسان.

وليس من الصعب بالطبع على حماة الحدود إدراك الأدوار الخطيرة التي يقومون بها، والخدمات الكبيرة التي كانوا يؤدونها للدولة التي يتولون حماية حدودها وضبطها من غارات الأعراب عليها؛ ولهذا صاروا يتحينون الفرص السانحة والظروف

<<  <  ج: ص:  >  >>