للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الأرض، و "البريق" الذي كان يظهر من الحرار، مثل حرّة "القوس" التي قيل أنها كانت ترى كأنها حريق مشعل١، و "حرة لبن" التي كان يخرج منها ما يشبه البرق، ويسمع منها أصوات كأنها صياح٢، هذه كلها تركت صورًا مرعبة في نفوس الجاهليين، تتجلى في القصص المروية عنها، وفي عقائدهم بتلك النيران.

ولعل قوة نيران "حرة ضَرْوان" وشدة قذفها للحمم وارتفاع لهيبها، هي التي دفعت أهل اليمن إلى التعبد لها والتحاكم إليها؛ فقد كانوا يذهبون إليها ليتحاكموا عندها فيما يحدث عندهم من خلاف، والرأي عندهم أن النار تخرج فتأكل الظالم وتنصف المظلوم. وقد كانت حرة نشطة عاشت أمدًا طويلًا كما يظهر من وصف "الهمداني" وغيرها لها، وصلت حممها إلى مسافات بعيدة عن الحرة٣.

وقد تسببت أكثر هذه الحرار في هلاك كثير ممن كان يسكن في جوارها وفي هجرة الناس من الأرضين التي ظهرت بها، فتحولت إلى مناطق خاوية خالية. وقد وجد السياح أرضين شاسعة واسعة أصيبت بالحرار، وتأثرت بفعل "اللابة": التي سالت عليها. وللناس الحق كل الحق في إرجاع أسباب هلاك أصحابها إلى العذاب الذي نزل بهم بانفجار الأرض وبخروج النيران منها تلتهم الساكنين عندها. وقد جهلوا أن هذه النيران المتقدة الصاعدة والروائح الكريهة المنبعثة عنها، هي من فعل العوامل الأرضية الداخلية التي تعمل سرا في بطن الأرض.

وكثرة الحرار في جزيرة العرب، وانتشارها في مواضع متعددة منها؛ دليل على أن باطنها كان قد تعرض لامتحانات عسيرة قاسية، ولتقلبات كثيرة ولضغط شديد في المناطق الشمالية والغربية والجنوبية، وقد ظهر أثر ذلك الضغط في وجهها فبان اليوم وكأنه حب الجُدَرِيّ، ويتحدث عن ذلك المرض القديم.


١ قال عرعرة النميري:
بحرة القوس وجنبي محفل ... بين ذراه كالحريق المشعل
البلدان "٣/ ٢٥٩".
٢ "لبن"، بضم اللام وتسكين الباء الموحدة، قال الشاعر:
بحرة لبن يبرق جانباها ... ركود ما تهد من الصياح
البلدان "٣/ ٢٦٠".
٣ الإكليل"١/ ٣٣".

<<  <  ج: ص:  >  >>