منها، إذ بغيرها لا نتمكن من كتابة تأريخ بالمعنى العلمي للعرب قبل الإسلام. وهي تيسر لنا فهم اتجاهات المؤرخين، وتصنيف الموارد على أساس الأسبقية، وبذلك تتيسر مهمة المؤرخ بعض التيسر، وتمهد له الجادة بعض التمهيد.
ومن المؤسف حقًّا أن الأخباريين كانوا يتصرفون بالنصوص وبالمقتبسات التي يعتمدون عليها، ويجرون فيها بعض التغيير، وربما أغفلوا أسماء أصولها، فتظهر كأنها منهم على حين أنها نقل وأخذ، ولو أشاروا إلى المقتطفات والمقتبسات في الموضع المناسب، لكان في إشارتهم هذه خدمة كبرى لمن جاء بعدهم، وهداية إلى الموارد الأصلية التي يجب أن يرجع إليها ويعتمد عليها.
ومن حسن الحظ أن بين أيدينا جملة مؤلفات لاتينية ويونانية، وردت في ثناياها إشارات إلى "عرب الروم" و" عرب الفرس"، أي عرب الشأم من "آل جفنة" وعرب الحيرة من "آل لخم". وقد عاصر بعض أصحاب هذه المؤلفات أولئك القوم، واشتركوا هم أنفسهم في الحملات لكونهم مؤرخين رسميين يسيرون مع القيصر أو القواد لتدوين الحوادث والمشاهدات. وقد أفادتنا إشاراتهم هذه فوائد كبيرة، وعليها كان جل اعتماد الباحثين في إيجاد مواضع ارتكاز يطمئن إليها في تعيين تواريخ "آل جفنة" أو "آل لخم"، وبها تمكنا من تصحيح أكثر أغلاط الأخباريين. ولقدمها –بالنسبة إلى مؤلفات الإسلاميين- ولكون معظمها من عهد ما قبل الإسلام، وكان لها حق التقديم بالطبع في نظر المؤرخ الحديث، ولكن هذا لا يدفع عنها مع ذلك مواطن النقد والشبهات.
وللمؤلفات السريانية فضل يجب ألا ينسى أيضًا في تدوين هذا التأريخ، ولكنها ليست على الإجمال كالمؤلفات اليونانية واللاتينية في الدقة وفي النقد. ولما كان الكثير منها تواريخ كنسية، تعرضت لتأريخ الحيرة أو عرب الشأم أو العرب الآخرين بقدر ما لهؤلاء من صلة بالكنيسة وبالنصرانية، وهي على الجملة تمزج الأخبار بالمعجزات وبخوارق العادات وبرواية كرامات الآباء في هداية الملوك الوثنيين وسادات القبائل، وهي لا تخلو أيضًا من العصبية التي اتسم بها ذلك الزمن في النزاع المذهبي الذي منيت به النصرانية وفي محاولة الغض من الطرف النصراني الثاني، كالذي نجده بين المؤلفات النسطورية واليعقوبية والملكية وأمثالها، فلكل منها رواية بأسلوبها الخاص، لذلك وجب علينا الانتباه لهذه الناحية حين الرجوع إليها، وتخليص رواياتها من شوائب العصبية للمذهب، ونقدها لاستخلاص