وكان مما فعله "كسرى أنوشروان" أن هاجم الإمبراطورية البيزنطية وقيصرها في عهد "يوسطفيان""يسطنيانوس""جستنيان""٥٢٧-٥٦٥م" واشتبك معها في جملة حروب، ووسع حدوده في الشرق، وساعد الأحزاب المعارضة للروم، وأرسل حملة إلى اليمن بناء على طلب الأمراء المعارضين لحكم الحبشة عليها، ساعدتهم في وضع خطة لإزاحة الحبشة عنها١. والحبش هم حلفاء البيزنطيين، وإخوانهم في الدين وهم الذين حثوا النجاشي على فتح اليمن بعد أن يئسوا من الاستيلاء عليها, ومن الاستيلاء على الحجاز وبقية جزيرة العرب.
واتبع "كسرى الثاني""٥٩٠-٦٢٨م" المعروف بـ"كسرى أبرويز"، وهو ابن "هرمز بن كسرى أنوشروان" خطوات جده وأسلافه الملوك الماضين في الحرب مع البيزنطيين، فبلغ "خلقيدونية" ثلاث مرات، واستولى على بلاد الشام، ودخلت جيوشه القدس في سنة "٦١٤م". ثم استولى على مصر في سنة "٦١٩م", ودوخ بفتوحاته الروم إلى أن عاجله ابنه بخلعه, فاستراح الروم منه، ثم لم يلبثوا أن استردوا من الفرس أكثر ما أخذوه منهم في تلك الحروب.
وقد أضعف هذه الحروب المتوالية الحكومة الساسانية وآذت الشعوب التي خضعت لحكمها وأفقرتها، وأثرت على الأمن الداخلي وعلى الأوضاع الاقتصادية والعمرانية تأثيرًا كبيرًا, ولا سيما في البلاد التي صارت ساحة تعبئة وتلاحم جيوش، وهي بلاد العراق. ولم يعد الإنسان يأمن على حياته وعلى ماله، وصار سواد الناس وكأنهم أبقار واجبها إعطاء الحليب وأداء الأعمال الأخرى للحكام، والذبح للاستفادة من لحومها ومن جلودها وعظامها, حينما تنتفي الحاجات الأخرى منها. وتأسد المرازبة وقادة الجيوش في الحكم، حتى صار الحكم حكم عواطف وأهواء ومصالح، "والشاهنشاه" عاجز عن عمل كل شيء؛ لأن "الشاهنشاهية" لم تعد متقيدة بالوراثة القديمة وبالآداب السلطانية، بل صارت لمن يستعين بأصحاب العضلات ويمثيري الفتن والاضطرابات. أضف إلى ذلك أن من بيده مفتاح الدفاع عن الدولة، وهم الجنود والضباط الصغار، شعروا أنهم يقاتلون لا في سبيل وطن ودين وعقيدة، بل يقاتلون لأنهم يساقون إلى القتال قسرًا، وهم في حالة سيئة ووراءهم عوائلهم لا تملك شيئًا، وقد جيء بهم إلى الجيش قسرًا وعلى