للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فلاة، وحسو قلات"١. ويروى أن "ميسون بنت بحدل" الكلبية، زوجة معاوية، كانت تحن إلى وطنها، وقد سمعها زوجها وهي تنشد أبياتًا فيها شوق وحنين إلى البادية، فخيمتها التي تلعب الأرياح بها خير عندها وأحب لها من العيش في قصر منيف، ورجل من بني عمها نحيف أحب إليها من "علج عليف", أي: حضري سمين من كثرة الأكل٢, وانتقل أعرابي من البداوة إلى الحضارة، فرأى المكاء في الحضر، فقال يخاطبه: فارق هذا المكان؛ فإنه ليس لك فيه الشجر الذي تعشش عليه, وأشفق من أن تمرض كما مرضت٣.

والعربي الذي ألف الحضارة وأمعن في الترف وتفنن في العيش بالمدن، لا يفقه سحر البادية الذي يجلب إليه أهل البادية؛ لأنه يرى أن كل ما فيها ضيق وجوع وحر شمس وفقر, فيسخر من الأعرابي ويضحك عليه لحنينه إلى باديته. ولما استظرف "الوليد بن عبد الملك" أعرابيا واستملحه، فأبقاه عنده وسأله عن سبب حنينه إلى وطنه, أجابه جوابًا خشنًا مثل جفاء الأعراب وصلفهم. فقال الوليد، وهو يضحك: أعرابي مجنون٤. ولم يتأثر منه؛ لأنه أعرابي، والأعرابي في حكم المجانين, وقد سقط حكم القلم عنه.

ويروي أهل الأخبار حديثًا لكسرى أنوشروان مع وفد وفدَ عليه فيه بعض خطباء العرب, فسألهم عن سبب تفضيلهم السكن بالبادية وعن حياتهم بها وعن طبائعهم إلى غير ذلك من أسئلة وأجوبة دونوها على أنها أسئلة كسرى وأجوبة العرب عليها٥, وفيها أمور مهمة عن حياة الأعراب. وقد يكون الخبر قصة موضوعة، غير أننا لا ننظر إليها من جهة تأريخية, إنما نأخذها مثالًا على ما كان يدور في خلد من صنعها عن نفسية الأعراب, وعن نظرة الحضر إلى أهل البوادي.

وللمسعودي كلام في اختيار العرب سكنى البادية وسبب ذلك, كما تحدث


١ المصدر المذكور "٢/ ٣٩٠".
٢ بلوغ الأرب "٣/ ٤٢٦ وما بعدها".
٣ بلوغ الأرب "٣/ ٤٢٨".
٤ رسالة في الحنين إلى الأوطان "٢/ ٣٩٧".
٥ بلوغ الأرب "٣/ ٤٣٣".

<<  <  ج: ص:  >  >>