للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عن أثر البوادي في صحة أجسام العرب وفي تكوين أخلاقهم، مما جعلهم يختلفون بذلك عن بقية الناس.

والعرب وإن عرفوا بالترحل والتنقل؛ بسبب البداوة، إلا أنهم يحنون إلى أوطانهم، ولا ينسون موطنهم القديم، يستوي في ذلك العربي والأعرابي. وهم يرون أن في الغربة كربة، وأن الإنسان إذا صار في غير أهله ناله نصيب من العذل١. "وكانت العرب إذا غزت وسافرت حملت معها من تربة بلدها رملًا وعفرًا تستنشقه عند نزلة أو زكام أو صداع"٢, "وقيل لأعرابي: كيف تصنع في البادية إذا اشتد القيظ وانتعل كل شيء ظله؟ قال: وهل العيش إلا ذاك، يمشي أحدنا ميلًا فيرفضّ عرقًا, ثم ينصب عصاه ويلقي عليها كساءه, ويجلس في فيئة يكتال الريح، فكأنه في إيوان كسرى"٣.

وجاء أن "الوليد بن عبد الملك" استظرف أعرابيا فاحتبسه عنده وحباه, فمرض فبعث إليه "الوليد" بالأطباء، وعالجوه، ورأى من الخليفة كل رعاية, لكن هواه بقي في وطنه، ولم يطق على هذه المعيشة الراضية الطيبة صبرًا، فهلك بعد قليل٤, إلى غير ذلك من قصص وشعر ورد في الحنين إلى الأوطان, وفي تفضيل الوطن على كل منزل آخر، ولو كان آية في الجمال ومثالًا من الراحة والاطمئنان.

وهو يعجب من لغة أهل الحضر, ولا سيما حضر ريف العراق وريف بلاد الشام, ومن الأكرة الذين لا يفهم عنهم ولا يستطيع إفهامهم، فكان يجد نفسه وكأنه في سجن مطبق، يريد الخلاص منه. حدث ذلك حتى في الإسلام، وقد ذكر "أبو عثمان الجاحظ"، أنه رأى أعرابيًّا، وكان عبدًا حبشيًّا لبني أسيد، وقد صار "ناظورًا"، وكأنه أصيب بمس من الجن، فلما رآه، قال له: لعن الله أرضًا ليس بها عرب٥.


١ رسالة في الحنين إلى الأوطان "٢/ ٣٩٠ وما بعدها".
٢ رسالة في الحنين إلى الأوطان "٢/ ٣٩٢".
٣ المصدر نفسه.
٤ رساله في الحنين إلى الأوطان "٢/ ٣٩٧ وما بعدها".
٥ رسائل الجاحظ "٢/ ٤٠٣ وما بعدها".

<<  <  ج: ص:  >  >>