أعرابية متبدية، والصواب عندي: أن في القحطانيين عربًا وأعرابًا، وفي العدنانيين حضرًا وبادية، وإن غلبت البداوة على العدنانيين؛ لأن من وجد الماء الدائم تنخ عليه وتحضر، قحطانيًّا كان النازل أو عدنانيًّا، فالحضارة تنبت حيث يكون الماء، والماء لا يعرف النسب والقبائل, من وجده وظفر به وأقام عليه تحضر واستقر فصار حضريًّا.
ولهذا نجد أن في حضر جزيرة العرب أقوامًا يحشرهم أهل الأنساب في قحطان, ونجد في حضرها أقوامًا يرجعون نسبهم إلى عدنان.
ونحن إذا ما رسمنا خارطة لكيفية توزع الحضر والأعراب, أو كيفية انتشار القبائل، فإننا نجد أن منازل القبائل متداخلة مشتبكة، ليست بينها حدود ولا أسوار حاجزة تحجز القبائل القحطانية عن القبائل العدنانية, إلا في العربية الجنوبية حيث يرجع النسابون نسب أكثر قبائلها إلى أصل قحطاني. أما في الأماكن الأخرى، فإن القبائل القحطانية وكذلك القبائل العدنانية منتشرة انتشارًا لا يدل على وجود تكتل وتحزب, بل نجد القحطانية تجاور العدنانية وتخالطها ونجد القحطانية في جوار القحطانية، والعدنانية في جوار العدنانية، مما يدل على أن هذا التوزيع لم يقم ولم يستند على عنصرية وحزبية وعلى هجرات منتظمة، وإنما قام على حق القوة وتحكم القوي في الضعيف، مهما كان عنصر القوي وأصله, وأن التكتل قد حدث بدوافع سياسية عسكرية لعبت دورًا خطيرًا في تكون النسب.
وظاهرة أخرى نراها عند القبائل، تتجلى في أن القبائل وإن تنقلت وارتحلت من مكان إلى مكان، سعيًا وراء الماء والكلأ، كما يذكر أهل الأخبار، إلا أن ذلك لا يعني أن هذه الحركة هي حركة دائمية مستمرة، وأن القبائل كانت تنتقل دومًا من مكان إلى مكان، بحيث صار الترحل لها سنة دائمة لازمة. فلو ثبتنا منازل القبائل على "خريطة" صورة جزيرة العرب، استنادًا إلى روايات أهل الأخبار عنها، وجدنا أن منازل القبائل لم تتبدل إلا للضرورات ولأسباب قاهرة تكره القبيلة على ترك ديارها والارتحال عنها إلى منازل جديدة، كأن تغزوها قبائل كثيرة العدد أقوى منها أو ينحبس عنها المطر سنين، تهلك الضرع، أو تحاربها قوة نظامية أقوى منها، كالذي وقع لـ" إياد"، حيث أزاحها "بنو عبد القيس" عن مواطنها في البحرين، ثم شتت الفرس شملها في العراق فعندئذ تضطر القبيلة وهي مكرهة مجبورة على ترك ديارها للبحث عن ديار أخرى