للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهي مانع يصد الأعراب عن الحضر. وهم بالإضافة إلى ذلك أقدر على الدفاع عن أنفسهم وعلى اللجوء إلى الحيل للتخلص من الأعراب؛ بسبب تحضرهم وتقدمهم في التفكير على عقلية الفطرة التي جبل البدو عليها. وغاية ما فعله الحضر من الأحلاف، هو تحالفهم مع من أحاط بهم من الأعراب لضمان عدم تحرشهم بهم أو لمنع الأعراب الآخرين من التحرش بهم, وعقد حبال مع القبائل لمرور تجارهم من أرضها بأمن وسلام مقابل هدايا أو أرباح أو أموال تعين، تدفع إلى ساداتها تأليفًا لقلوبهم وضمانًا منهم لهم بعدم تحرش أحد بهم.

ولما تقدم انحصرت الأحلاف الكبرى أو التكتلات القبلية الضخمة بالأرضين المكشوفة التي غلب عليها الطابع الصحراوي، وبين القبائل التي غلبت البداوة عليها. والأحلاف الكبرى، هي في نظري كناية عن النسب الأكبر عند العرب؛ فربيعة ومضر وإياد وأنمار وقضاعة، هي في الواقع تكتلات قبلية تكونت من قبائل غلبت البداوة على طبعها، وقد ظهرت خارج العربية الجنوبية، أي: خارج الأرضين التي غلب علي سكانها طابع الارتباط بالأرض والقرار. أما القبائل القحطانية، التي هي في التوراة كناية عن قبائل عربية جنوبية مستقرة، فكتل أخذت أسماءها من الأرضين التي كانت تحكمها أو من اسم القبيلة التي سميت باسمها, وبين أسماء القبائل وأسماء الأرضين صلة متينة، بحيث يصعب الحكم فيما إذا كانت الأرض قد أخذت اسمها من اسم القبيلة, أو أن القبيلة أخذت اسمها من اسم الأرض.

وقد لعبت فكرة "قحطان" و"عدنان" دورًا مهمًّا في حصر الأنساب عند العرب في الإسلام. يذكر الجاحظ أن رجلًا اسمه "شويس الساسي التميمي العدوي" المعروف بـ"أبي فرعون"، كان قد قدم البصرة، فذهب إلى رجل منها اسمه "كهمس" يلتمس العون منه، فأعطاه رغيفًا من الخبز الحواري، ثم ذهب إلى رجل آخر اسمه "عمر بن مهران"، فلم يعطه ما كان يريد، فضاق ذرعًا من هذا الرغيف، وذهب إلى حلقة "بني عدي" فوقف عليهم وهم مجتمعون، وأخرج الرغيف من جرابه وألقاه في وسط المجلس, وقال: يا بني عدي, استفحلوا هذا الرغيف؛ فإنه أنبل نتاج على وجه الأرض! ثم قال شعرًا سخر فيه من أهل البصرة, ومن تشدقهم في الانتساب إلى قحطان

<<  <  ج: ص:  >  >>