للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وخبروه، عكس "نزار"، عرب البر، وهم قوم لا علم لهم بالبحر، إنهم لم يتعودوا على ركوبه؛ إذ سكنوا البر ولم يعركوا البحر، فخافوا منه وتجنبوه.

والآراء المتقدمة في تقسيم العرب إلى أركان وكتل، هي آراء عربية محضة أخذت من واقع الحال, ولم تستمد من التقسيم المألوف للعرب إلى قحطانيين وعدنانيين، التقسيم المأخوذ من التوراة على نحو ما شرحت ذلك في الجزء الأول من هذا الكتاب؛ وذلك لأن الحياة في بلاد العرب هي حياة تكتل وتحزب, فكان لا بد للقبائل من عقد أحلاف فيما بينها للمحافظة على نفسها من افتراس القبائل الكبيرة لها، ومن استذلالها وأخذ ما تملكه. وبهذه الأحلاف حافظت القبائل الضعيفة على حياتها، وحدَّت من طمع القبائل الضخمة في القبائل الهزيلة، وصار في الإمكان السيطرة على الأمن والتقليل من حمى غزو القبائل بعضها بعضًا.

وحاجة الأعراب إلى الأحلاف أكثر وأشد من حاجة الحضر إليها، وذلك بسبب أن الغزو في البادية ضرورة من ضرورات الحياة لفقر البادية وشحها؛ لانبساط أرضها وعدم وجود حواجز طبيعية تعوق الغزو وتحمي المغزو منه. فاضطرت القبائل إلى خلق حماية طبيعية لها هي الأحلاف, والأحلاف هي لغاية حماية المال والنفس في الغالب، ولكبح جماح المعتدين إذن. أما الأحلاف الهجومية التي تعقد لتحقيق أغراض هجومية مثل غزو حلف حلفًا آخر أو قبيلة ضخمة قبيلة ضخمة أخرى، فإنها لا تعمر طويلًا كما تعمر الأحلاف الدفاعية؛ لأن أسباب انعقادها تزول بتنفيذ ما اتفق عليه، وقد يتحطم الحلف بسبب ظهور اختلافات مصالح لم تكن في حسبان المتحالفين يوم عقدوا حلفهم، فيتصدع بنيان الحلف ويتهدم ويزول الحلف ليظهر محله حلف آخر جديد.

أما الحضر، فإن لهم من حماية أرضهم لهم, ومن طبيعة الحياة التي يحيونها ما يخفف من حاجتهم إلى الحلف القبلي، ويجعل أحلافهم أحلافًًا من طراز آخر. فقد منحت الطبيعة الحضر حجرًا صلدًا بنوا به أبراجًا وحصونًا ومعاقل حموا بها مستوطناتهم، من طمع الطامعين فيهم، ولا سيما من الأعراب الذين لا يسهل عليهم اقتحام الحصون ولا تهديمها لعدم وجود أسلحة تؤثر فيها، ومنحتهم تربة صار من الممكن عمل الآجر واللبن منها لبناء المحافد والآطام وما شاكل ذلك من وسائل الدفاع، كما أمدتهم بمواد بناء مكنتهم من إنشاء الحيطان والأسوار حولها،

<<  <  ج: ص:  >  >>