للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ذلك العهد. على كل، فإنه يشير إلى وجود تدوين العهود عند الجاهليين. ولما تحالفت قريش على مقاطعة "بني هاشم" و"بني المطلب" كتبت كتابًا بما اتفقت عليه، كتبه "منصور بن عكرمة العبدري"، وذكر أنه حفظ عند "أم الجُلَّاس بنت مُخربة الحنظلية" خالة أبي جهل، وذكر أنه عُلِّق في جوف الكعبة١.

وشهادات الشهود على صحة العقود أو الأوامر معروفة عند أهل اليمن، إذ وردت في الأوامر الملكية التي أصدرها ملوك اليمن وفي قوانينهم التي كانوا يصدرونها لأتباعهم. وقد عرفت عند أهل مكة، وهم قوم تجار وأصحاب مصالح، ولهم عقود ومواثيق ومعاهدات مع غيرهم من أهل القرى وسادات القبائل. وفي القرآن الكريم ألفاظ لها صلة بالشهادة والشهود, منها: "شهدتم" و"شهدوا"، و"أشهد"، و"تشهد", و"تشهدون"، و"شاهد", و"الشهادة", وقد أمر بوجوب المحافظة على الشهادة وعدم كتمانها: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} ٢.

ولما كانت مراسيم الأحلاف من المراسيم المهمة ومن الأحداث الخطيرة، اقترنت من أجل ذلك بتقديم الطعام للمتحالفين. فيجلس المتحالفون من جميع الفرقاء على مائدة واحدة كالذي ذكرته من تقديم عبد الله بن جدعان الطعام للمتحالفين يوم عقدوا "حلف الفضول". وقد تكون الوليمة نفسها مظهرًا من مظاهر مراسيم عقد الأحلاف؛ لما للخبز والملح من أثر عند العرب، فعلى من يأكل خبز رجل وملحه أن يمر به ويوفي له؛ ولهذا يعنف الإنسان الإنسان الغادر ويوبخه، لأنه لم يراعِ حرمة الخبز والملح، وهي حرمة تكاد تصل إلى حرمة الدم والرحم.

يتبين مما تقدم أن العرب كانت ترى توكيد الأحلاف بكسوتها بقدسية خاصة، وذلك بعقدها مراسيم ذات صبغة دينية. وقد راعت في تلك المراسيم جهد إمكانها إيلاج ما يوضع في تلك المراسيم إلى أجسام المتحالفين، وكأنهم أرادوا بذلك إدخال القسم وما حلف عليه في جسم المتحالفين؛ ولهذا كان الذين يغمسون إصبعهم في جفنة الدم أو في دم الجزور, يلطعون إصبعهم، وكان الذين يغمسون


١ ابن سعد، طبقات "١/ ٢٠٨ وما بعدها".
٢ البقرة, الآية ٢٨٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>