للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَقوما وَقولا بِالَّذي تَعْلمانه ... وَلا تَخمِشا وَجهًا وَلا تَحلِقا شَعَر

وَقولا هُوَ المَرءُ الَّذي لا خَليلَهُ ... أَضاعَ وَلا خانَ الصَديقَ وَلا غَدَر١

وهي وصية فيها تعقل واقتصاد بالنسبة إلى طلبات غيره ممن كان يرى البكاء والنياحة وخمش الوجوه وحلق الشعور وإظهار أكثر ما يمكن من مظاهر الحزن والتوجع والتألم وأمثال ذلك، هي سيماء من سيماء التقدير والتعظيم والاحترام للميت بل للأحياء من آله وأقربائه أيضًا؛ لأنها دلالة على شدة تألمهم لذهاب فقيدهم، وعلى أنهم لا يبالون في الإنفاق في شيء حتى في إيلام أنفسهم وتوجيع أجسامهم وهلاكهم في سبيله، وأنهم كرماء لا يبالون في البذل في سبيل من يفتقدونه.

وما كان لبيد، ليقنع بهذا المأتم لو كان على رأي أهل الجاهلية. فمأتمه هذا مأتم بارد لا يليق بمقام رجل جاهلي، ولكنه كان مسلمًا، دفعه إسلامه على القناعة في مأتمه وعلى الاكتفاء بهذا القليل. فقد ورد في الحديث: "إن الميت ليعذب ببكاء أهله"، وأن الرسول قال: "ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية"، وأنه: "بريء من الصالقة والحالقة والشاقة"، وأنه قال: "اثنتان في الناس هما بهما كفر: الطعن في النسب والنياحة على الميت" إلى غير ذلك من أحاديث تنهى عن هذه المظاهر، التي هي في نظر الإسلام من سيماء أهل الجاهلية٢.

ويصحب البكاء شق الجيب وتعفير الرأس بالتراب واجتماع النسوة أيامًا لندب الميت وذكر مناقبه. تقوم بذلك نادبات ممتهنات أو غيرهن ممن رزقن موهبة القول في مثل هذه الأحوال من أفراد الأسرة أو القبيلة أو الحي أو القرية. وفي بيت لـ"طرفة بن العبد" نجده يوصي بنعيه بما يستحقه وبشق الجيب عليه٣. وقد يمتد نعي الميت ورثاؤه حولًا كاملًا، وهي مدة عزاء أهل الجاهلية٤. فإذا انتهى


١ بلوغ الأرب "٣/ ١١".
٢ بلوغ الأرب "٣/ ١٢ وما بعدها"، "النياحة على الميت من أمر الجاهلية " "البخاري: التاريخ الكبير" "١/ ٢٣٢"، "ثلاث من قبل الجاهلية لا يدعهن أهل الإسلام: استسقاء بالكواكب وطعن في النسب، والنياحة على الميت"، الإصابة "١/ ٢٤٧" القسطلاني إرشاد الساري "٢/ ٤٠٤"، "باب ما يكره من النياحة على الميت".
٣
فَإِن مُتُّ فَاِنعيني بِما أَنا أَهلُهُ ... وَشُقّي عَلَيَّ الجَيبَ يا اِبنَةَ مَعبَدِ
بلوغ الأرب "٣/ ١١".
٤ تاج العروس "٦/ ٣٢٠"، بلوغ الأرب "٣/ ١٢".

<<  <  ج: ص:  >  >>