أعلى، يرجع نسبهم إليه، أو جدة إن انتمى أهل المدينة إلى امرأة. وذلك، لاعتقادهم أنهم من قبيلة واحدة في الأصل، هاجرت إلى هذا المكان فسكنت فيه. فمرجع نسب مكة إلى "قريش"، ونهاية نسب أهل يثرب من الأوس والخزرج إلى "قيلة" جدتهم، ونسب أهل الطائف إلى ثقيف. فنحن إذن وإن كنا أمام مدن وقرى، أي: أمام عرب حضر، لكننا نجد أنفسنا أمام نظم تقوم على أسس قبلية وعقلية قبلية. فالقرية في الواقع قبيلة مستقرة تمركزت في مكان واحد. وقد تمسكت بنظم تفرع القبيلة وبالعصبية، وبما إلى ذلك من عرف مجتمع أهل البادية. وقد بقيت رابطة النسب وصلة الدم بها قوية. ذلك لأن تلك القرى، وإن جلبت إليها الجانب والغرباء، غير أنها بقيت مجتمعات منعزلة، لأن وسائل الاختلاط لم تكن متهيئة لها في ذلك الوقت، حتى تجبرها على الخروج عن العزلة، والاختلاط بالغير، اختلاطًا شديدًا على نحو ما يحدث للحضر في الأمكنة المتحضرة الممتزجة بالسكان.
وجد القبيلة، هو مصدر إلهامها، ورابطها الروحي الذي يربط بينها. باسمه تتنادى في الغزوات والحروب، لتبعث حرارة الاندفاع والحماسة في القتال، وبه يدعو للنخوة أبناؤها ومن يلتجئ إلى القبيلة من مولى أو جار، وبقبره يلاذ إن كان له قبر، وباسمه يحلف كما يحلف بأسماء الآلهة.
وللقبائل مصدر إلهام روحي آخر، هو أصنامها. فكان "المقه" صنم سبأ، وكان "ود" صنم "معين"، وكان للقبائل العربية الشمالية التي حاربت الأشوريين أصنام يحملونها معهم في سلم وفي حرب. ويستمدون منها المدد والعون في الغزوات والحروب. ويعد سقوط الصنم في أيدي الأعداء نكسة للقبيلة وعارًا على أبنائها، لذلك كانوا لا يهدأ لهم بال حتى تعاد إليهم أصنامهم. وكان من أهم ما يدعو القبائل العربية إلى التهادن مع الأشوريين رغبتهم في استعادة أصنامهم وضمان عودتها من المنفى والأسر إلى الحرية.
ولما ظهر الإسلام كانت القبائل لا تزال تحتمي بأصنامها وتدعوها لتنصرها في الحرب، حتى من تحضر منها واستقر، مثل أهل مكة الذين كانوا ينادون:"أُعْلُ هُبَلْ. أُعْلُ هُبَلْ" في حربهم مع المسلمين. أما الذين غيروا دينهم وتنكروا لعبادة الأصنام فقد احتموا بشفعاء جدد، أخذوهم من النصرانية التي دخلوا فيها، فكان لهم قديسون يلوذون بهم في أثناء القتال.