للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والوجاهة والسلطان في المسائل الخطيرة التي تخص الدولة أو المجتمع وحدهم، فهو نظام شورويّ بالنسبة لأهل الرأي والمشورة، وهؤلاء وحدهم هم الذين يشاورون في الأمور. أما السواد، فلا رأي له. ومع ذلك، فهو أفضل من الحكم المطلق الذي يكون الملك فيه هو "الكل في الكل" يفعل ما يشاء من غير حساب. وهو بالقياس إلى نظم الحكم عند الأشوريين أو البابليين أو الفراعنة، نظام فيه "ديمقراطية" لا نجدها في قواعد حكم الشعوب المذكورة.

ولكن الدنيا لا تدوم على حال واحد، فأخذ حكم المزاود يتقلص، وصار عدد من يأخذ بالرأي والمشورة من الملوك يقل حتى إذا جاءت الأيام المتأخرة من حكومة سبأ، صار الأمر للأقيال والأذواء وسادات القبائل، واضطر الملوك إلى النزول عن حقهم في الأرضين إلى أصحاب السلطان في مقابل اتفاقيات تحدد الواجبات والحقوق التي يترتب على هؤلاء الأقوياء الذين اغتصبوا الأرض اغتصابًا أداؤها للدولة، ويقوم صاحب السلطان الملاك بإيجار الأرض لأتباعه من آله أو من أهل قبيلته، مقابل أجر يدفعونه له، وهؤلاء يؤجرونها أيضًا لمن هم دونهم في المنزلة والدرجة. فتحولت الملكية بذلك إلى دولة إقطاع، أرباحها وحاصلها وناتجها وقف على طبقة ذوي الجاه والسلطان.

وفقد "المزود" مكانته، إذ انتزع الأقيال "أقول" منه السلطان، حتى قدموا أسماءهم في النصوص على اسم المزاود. فنجد أقيال "سمعي" "أقول سمعي" يقدمون اسمهم على اسم المزود، دلالة على خطر شأنهم وقوتهم، وعلى أن حكم "المزود" صار في الدرجة الثانية من خطر الشأن في هذه الأيام١.

وقد تضاء حكم "المزود"، بل زال من الوجود منذ القرن الثالث للميلاد فما بعده، فلا نكاد نجد له حكمًا أو ذكرًا في الكتابات، إذ انفرد الملوك والإقطاعيون الكبار بالحكم، وصار رأيهم هو الرأي الحق المقبول، وبيئة ينفرد فيها الأفراد بالحكم، وينتزع فيها من الأشخاص حق التعبير عن الرأي، هي بيئة لا يمكن أن يعمر فيها "المزود" أو أي مجلس كان من قبيلة يقوم بالتعبير عن رأي الناس، وإن كان بصورة رمزية شكلية. لذلك نستطيع أن نقول: إن العربية الجنوبية فقدت أهم نعمة كانت عندها، نعمة التعبير عن الرأي، والنظم اللامركزية


١ Glaser ١٢١٠

<<  <  ج: ص:  >  >>