بعض الشعوب التي حكمها حكام مستبدون، حكموا شعوبهم حكمًا فرديًّا تعسفيًّا، لم يستند على رأي، لا رأي النخبة من الأمة، ولا رأي الشعب.
ودام الحال على هذا المنوال إلى القرن الثاني للميلاد تقريبًا، ثم تبدل وتغير.
فلما جاء القرن الثالث تقلص ظل حكم الأخذ بالشورى والرأي، حتى زال هذا الحكم، واختفى ذكر "المزاود"، ولم نسمع بعد ذلك لها خبرًا. ويظهر أن العربية الجنوبية قد سارت على الطريق التي سلكها ملوك اليونان وقياصرة "رومة" من التنكر للحكم "الديمقراطي" والابتعاد عنه، للأخذ بمبدأ حكم "الفرد"، وهيمنة الحاكم الأعلى على كل شيء. فلما بسط ملوك سبأ وذو ريدان وحضرموت سلطانهم على أرضين واسعة، وكونوا لهم جيشًا كثير العدد غزوا به أمارات والمخاليف، ازداد بذلك ملكهم، واتسع مالهم، وقضوا على من كان له رأي ونفوذ في المجالس حتى زالت المعارضة وصار الأمر بأيديهم، وبأيدي من يرضون عنهم ممن يأتمر بأمرهم. وبزوال قوة أصحاب المجالس، زال حكم الرأي والشورى الذي كان يحد بعض التحديد من سلطان الملوك، ويمنعهم من وضع القوانين من دون أخذ رأيهم، وصار الحكم إلى رأي الملوك وإلى رأي الأقوياء من كبار أصحاب "المخاليف".
ومما ساعد على زوال حكم الأخذ بالمشورة والرأي واستبداد الملوك وكبار رجال الإقطاع بالحكم، هو تدفق الأعراب من الحجاز ونجد وسواحل الخليج إلى العربية الجنوبية وازدياد عددهم فيها، ولا سيما بعد انهيار حكم مملكة كندة وارتحالهم من منازلهم إلى العربية الجنوبية، فازداد بذلك نفوذ الأعراب واستغلهم الملوك للقضاء على نفوذ الأقيال والأذواء وذوي الإقطاع والنفوذ والجاه، حتى صار لهم نفوذ واسع في المملكة، وغدو قوة اعترف الملوك بها، فأشاروا إليها في لقبهم الرسمي الذي صار على هذا النحو: ملك سبأ وذو ريدان وحضرموت وأعرابها في الأطواد والتهائم.
وقد استغل سادة الأعراب حاجة أهل الحكم والمتنافسون عليه إليهم، ببراعة ودهاء فصاروا يؤيدون من يغدق عليهم بالمال، ومن يفسح لهم المجال للغزو والسلب والنهب، ومن يزيد على غيره في إعطاء المال لهم. وأخذوا يتنقلون من جهة إلى أخرى. يعيشون بالأمن في وقت كان الأمن فيه مضطربًا قلقًا. يهاجمون المدن والقرى والحكومات. وهذا ما أقلق "بال" الحكومات والرعية، وجعل الناس