يخشون على حياتهم ومالهم، ويعشون بقلق، في ظل حكومات صغيرة عديدة، لا هَمَّ لها سوى مخاصمة بعضها بعضًا والتناحر، على عادة الحكومات المتنافسة الصغيرة في التكالب فيما بينها تكالب الكلاب.
وقد امتاز هذا العهد بكثرة حروبه وبكثرة ظهور الثورات فيه. وباضطرار الملوك إلى قضاء معظم أوقات حكمهم في مكافحة تلك الثورات وفي محاربة الإقطاعيين الذين أراد الملوك تقليص نفوذهم. وهذا مما جسر الحبش على العربية الجنوبية، فدخلوا قوة فاتحة فيها. ووضع مثل هذا لا يساعد على قيام حكم "ديمقراطي" ولو بشكل هزيل. وقد أثرت هذه الحروب والاضطرابات على وضع العربية الجنوبية، فأخرتها كثيرًا، وقضت على ما كان فيها من حضارة، وجعلت البلاد بلاد حكومات: حكومات قبائل قرى ومخاليف وعشائر. ولو أن الحكم هو للملوك أو للأحباش أو للفرس. وبقي الحال على هذا المنوال حتى ظهر الإسلام، فقضى على الحكم الأجنبي في العربية الجنوبية.
ولم يتمكن الحبش من حكم العربية الجنوبية كلها. ولم يكن من السهل عليهم حكمها لطبيعة أرضها ولتركز الإقطاع فيها، وهو نظام لازم تاريخها من قبل ظهور الحكم المركزي المنظم فيها، حتى صار من تراث تلك البلاد المميز لها في التاريخ. لقد اقتصر حكم الحبش في اليمن على مدن رئيسية معينة، كونت منطقة متصلة، أما خارجها فكان الحكم فيها بيد "الأقيال" الذين ركزوا حكمهم وقووه بتآزرهم وتعاونهم. وبقي الحال على هذا المنوال أيام الفرس أيضًا. بل أستطيع أن أقول: إن حكم الفرس كان حكمًا شكليًّا، مقتصرًا على بعض المواضع، أما الحكم الواقعي فكان للأقيال. ولا عبرة لما نقرأه في الموارد الإسلامية من استيلاء الفرس على اليمن، لأن هذه الموارد تناقض نفسها حين تذكر أسماء الأقيال الذين كانوا يحكمون مقاطعات واسعة في أيام حكم الفرس لليمن، وكان منهم من لقب نفسه بلقب ملك، وكان له القول والفعل في أرضه، ولا سلطان للعامل الفارسي عليه.