للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكان بين الجاهليين قوم كرهوا الأصنام وتأففوا منها، رأوا أنها لا تنفع ولا تضر ولا تشفع، فلم يتقربوا إليها، وقالوا بالتوحيد، ومن هؤلاء "مالك بن التيهان"، وهو من الأنصار ومن المسلمين الأولين الذين دخلوا في الإسلام من أهل "يثرب" و"أسعد بن زرارة".

وقد شك بعض المستشرقين في وجود أصنام عند العرب الجنوبيين٢، ويظهر أن الذي حملهم على قول هذا القول، هو ما رأوه من تعبد العرب الجنوبيين لآلهة منظورة في السماء هي الكواكب الثلاثة المعروفة، فذهبوا إلى انتفاء الحاجة لذلك إلى عبادة أصنام ترمز إلى تلك الآلهة. وعندي أن في إصدار رأي في هذا الموضوع نوع من التسرع؛ لأننا لم نقم حتى اليوم بحفريات علمية عميقة في مواضع الآثار في العربية الجنوبية حتى نحكم حكمًا مثل هذا لا يمكن إصداره إلا بعد دراسات علمية عميقة لمواضع الآثار، فلربما تكشف دراسات المستقبل عن حل مثل هذه المشكلات. إن الإسلام قد هدم الأصنام وأمر بتحطيمها، فذهبت معالمها، إلا أنه من الممكن احتمال العثور على عدد منها، لا زال راقدًا تحت التربة؛ لأنه من الأصنام القديمة التي دفنت في التربة قبل الإسلام بسبب دمار حل بالموضع الذي عبد فيه، أو من الأصنام التي وصلت إليها أيدي الهدم، فطمرت في الأتربة، وعلى كلٍّ فالحكم في هذا الرأي هو كما ذكرت للمستقبل وحده، وعليه الاعتماد.

والرأي الذائع بين الأخباريين عن كيفية نشوء عبادة الأصنام قريب من رأي بعض العلماء المحدثين في هذا الموضوع. عندهم أن الناس لم يتعبدوا في القديم وفي بادئ بدء الأصنام، ولم يكونوا ينظرون إليها على أنها أصنام تعبد، إنما صوروها أو نحتوها لتكون صورة أو رمزًا تذكرهم أو يذكرهم بالإله أو الآلهة أو الأشخاص الصالحين. فلما مضى عهد طويل عليها، نسي الناس أصلها، ولم يعرفوا أمرها، فاتخذوها أصنامًا وعبدوها من دون الله. وتحملنا رواياتهم في بعض الأحيان على الاعتقاد أنهم كانوا يعتقدون بعقيدة المسخ، كالذي رووه عن الصنمين إساف ونائلة من أنهما "رجل وامرأة من جرهم، وأن إسافًا وقع عليها في الكعبة فمسخا"٣، وبعقيدة التقمص كالذي رووه عن الصنم اللات من أنه كان إنسانًا


١ طبقات ابن سعد "٣/ ٤٤٨" "صادر".
٢ Arabien, s. ٢٤٧.
٣ الروض الأنف "١/ ٦٤".

<<  <  ج: ص:  >  >>