للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وذكر أهل الأخبار أن الجاهليين الوثنيين كانوا يفتتحون كتبهم بجملة "باسمك اللهم". ساروا في ذلك على هدى "أمية بن أبي الصلت" مبتدعها وموجدها، كما في رواية تنسب إلى ابن الكلبي. وذكر بعض آخر أن قريشًا كانت تستعمل هذه الجملة منذ عهد قبل الإسلام، وأنها بقيت تستعملها إلى ظهور الإسلام. وقد استعملها الرسول، ثم تركها، وذلك بنزول الوحي باستعمال "بسم الله الرحمن الرحيم"١. ونحن لا يهمنا هنا اسم مبتدع هذه الجملة، وإنما الذي يهمنا منها ما فيها من عبارة تدل أيضًا على التوحيد. فإذا صح أن الجاهليين كانوا يستعملون هذه الجملة، فإن استعمالها هذا يدل على اعتقاد القوم بإله واحد، أي بعقيدة التوحيد، ولا يعقل بالطبع استعمال شخص لهذه الجملة في رسائله، يفتتح بها كتبه، لو لم يكن من أصحاب عقيدة التوحيد، وقد جاء في بعض الأخبار أن هذا الاستعمال متأخر، وأنه حدث بعد أن تغيرت عوائد القوم في افتتاح كتبهم، فقد كانت عوائدهم القديمة افتتاح رسائلهم بأسماء آلهتهم كاللات والعزى، فرفعوا تلك الافتتاحيات القديمة واستبدلوا بها هذه الجملة الجديدة، جملة "باسمك اللهم". وعلى كل، فإن جملة "باسمك اللهم" وأمثالها إن صح أنها من ذلك العهد حقًّا فإنها تدل على حدوث تطور في الحياة الدينية عند الجاهليين. وإلا، فكيف يتصور استعمال هذه الجملة الموحدة مع وجود الشرك لو لم يكن قد حدث تطور فكري كبير في هذا العهد حملهم على استعمال هذه الجملة وأمثالها من الجمل والألفاظ الدالة على التوحيد٢؟

وقد درس بعض المستشرقين هذا الموضوع، ولا سيما موضوع ورود اسم الجلالة في الشعر الجاهلي، فذهبوا في ذلك مذاهب. منهم من أيد صحة وروده في ذلك الشعر، وآمن أن الشعر الذي ورد فيه هو شعر جاهلي حقًّا، ومنهم من أنكر ذلك، وأظهر أنه شعر منحول مصنوع، صنع على الجاهليين فيما بعد، ومنهم من ذهب إلى أنه شعر صحيح، غير أن رواة الشعر أدخلوا اسم الجلالة فيه، ولم يكن هو فيه في الجاهلية، بأن رفعوا أسماء الأصنام وأحلوا اسم الله محلها.


١ بلوغ الأرب "٣/ ٣٧٥، تاج العروس "٩/ ٤١١"، "لاه".
٢ "دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم. فقال سهيل: لا أعرف هذا، ولكن اكتب: باسمك اللهم"، الطبري "٢/ ٦٣٤". "صلح الحديبية

<<  <  ج: ص:  >  >>