للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

من أجله. ويمكن حصر ذلك في أمرين: التقرب إلى الأصنام والتعبد لها، والدفاع عنها بقولهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} ١، ولا علاقة لهذه العقيدة بالزندقة. والأمر الثاني، هو القول بالدهر وبالتعطيل، أي بنكران البعث والحشر والنشر. ويتجلى ذلك في قولهم لرسول الله: إن كنت صادقًا فيما تقول: فابعث لنا جدك: "قصي بن كلاب"، حتى نسأله عما كان ويحدث بعد الموت، وأمثال ذلك مما له علاقة بنفي وقوع البعث. وهو الذي له صلة بالزندقة. فالزندقة بهذا المعنى قول الدهر وبدوامه ونكران للبعث، لا الثنوية بمعنى القول: بالنور والظلمة.

وأما ما يرويه أهل الأخبار من أخذ زنادقة قريش زندقتهم من الحيرة٢، أو من نصارى الحيرة٣، فإن فيه تأييدًا لما قلته من أن الزندقة لا تعني المجوسية والثنوية، وإنما القول بالدهر، وإنكار المعاد الجسماني٤. وهو قول قريب من قول من أنكر بعث الأجسام، وآمن ببعث الروح فقط من النصارى ومن غيرهم من أهل الأديان.

والزندقة بهذا المعنى قريبة من رأي القائلين بالدهر، وهم "الدهرية" الذين أشير إليهم في القرآن الكريم، في الآية: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} ٥. وهم من يقول ببقاء الدهر، وبنكران البعث والآخرة، والخالق والرسل والخلق على بعض الآراء، وينسبون كل شيء إلى فعل الدهر، أي الأبدية مع التأثير في حياة الإنسان وفي العالم. ولهذا أضافوا إليه بعض الألفاظ والنعوت التي تشير إلى وجود هذا التأثير في الحياة فقالوا: يد الدهر، وريب الدهر، وعدواء الدهر، و"الدهر لا يبقى على حدثانه"، و"الدهر يحصد رببه ما يزرع"، وأمثال ذلك من تعابير، فنسبوا إليه الفعل في الكون وفي كل ما فيه٦.


١ الزمر، سورة رقم ٣٩، الآية ٣.
٢ المعارف "٦٢١".
٣ المحبر "٦٢١".
٤ مروج "٢/ ١٠٢"، "ذكر ديانات العرب وآرائها في الجاهلية".
٥ الجاثية، سورة رقم ٤٥، الآية ٢٤، تفسير الطبري "٢٥/ ١٥١"، القاهرة ١٩٥٤".
٦
ألم أخبرك أن الدهر غول ... ختور العهد يلتهم الرجالا
ألا إنما الدهر ليال وأعصر ... وليس على شيء قويم بمستمر
السندوبي "٨٣، ١٧١".

<<  <  ج: ص:  >  >>