للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إليه لشدة الازدحام، فقد يمد أحدهم قصبة أو عودًا أو عصًا إليه لمسه، فيكون لمس هذه الأشياء له، كأنه لمس حقيقي، يجلب لصاحبه ما تمناه وطلبه ورجاه من ذلك الصنم أو الحجر١.

وقد أشار بعض "الكلاسيكيين" إلى وجود غابة من النخيل في ركن من البحر الأحمر، كان يؤمها النبط للتبرك بها؛ إذ كانت في نظرهم أرضًا مقدسة، عليها معبد من الحجر عليه كتابة، وصفوها بأنها كتابة لا يستطيع اليوناني قراءتها، وبه كهَّان وكاهنات يقضون عمرهم في خدمة ذلك المعبد، قالوا: وفي كل خمس سنين يحج الناس إليه، ويتجمعون عنده، ويحضر معهم من في جوار المعبد من ناس، فيذبحون، ويتقربون إلى آلهتهم. فإذا عادوا أخذوا معهم ماء من ذلك المكان؛ للتبرك به، لاعتقادهم أنه يمنحهم الصحة والعافية. وذكر بعض آخر أن الحج إلى هذا البيت كان مرتين في السنة: الحج الأول في مطلع السنة، ويستغرق شهرًا واحدًا. أما الحج الثاني فيكون في نهاية الصيف، ويستغرق شهرين وتكون هذه الأشهر الثلاثة أشهرًا حرمًا لا يحل فيها قتال، يعمها سلم أوجبته الآلهة على الإنسان والحيوان.

ونرى في هذا الشعائر مشابهة كبيرة لشعائر الحج في مكة. ولولا تعيين هؤلاء الكتبة المكان، ونصهم على أنه على البحر الأحمر، وأنه غابة نخيل، لانصرف الذهن إلى مكة؛ إذ نجد أن شعائر الحج فيها تشبه هذه الشعائر، واستقاؤهم من ماء "زمزم" للتبرك به، يشبه استقاء هؤلاء من بئر معبدهم هذا، وقد أهمل أولئك الكتبة أسماء الأشهر الحرم الثلاثة، فأضاعوا علينا فرصة ثمينة كانت تساعدنا كثيرًا في الوقوف على تثبيت الأشهر عند الجاهليين.

ويلاحظ أن النبط كانوا يعقدون في أثناء هذه الأشهر الحرم سوقًا، تذكرنا بسوق عكاظ التي كان يعقدها أهل الحجاز. ولا شك أن موسم الحج في المعبد المذكور، الذي يتحول إلى سوق للبيع والشراء، يشبه موسم الحج في مكة حيث ينقلب أيضًا إلى سوق.


١ اللسان "١٢/ ٢٩٧"، "سلم".
٢ Die Araber in der Alten welt, I, S. ٣٢. f.

<<  <  ج: ص:  >  >>