والسحر كانوا يعرفونها ويكتبون بها، وبها يعوذون أنفسهم وغيرهم من الناس، وكانوا يفسرون التوراة والتلمود والكتب المقدسة لسواد الناس من العبرانية إلى العربية، لأنهم لم يكونوا يعرفون العبرانية، لا سيما وقد كان بينهم عرب متهودة.
ولم يظهر في يهود جزيرة العرب من حاز على شهرة في العلم والفقه والتأليف والخطابة على نحو ما ظهر بين يهود العراق أو فلسطين أو مصر، وإلا لاشتهر أمره وذاع خبره، كما ذاع خبر علماء يهود بابل وفلسطين ومصر. ولا يمكن أن تكون عزلتهم عن بقية يهود الأقطار المذكورة سببا كافيا في تعليل عدم شيوع اسم أحد من هؤلاء، إن قضية عزلتهم عن بقية إخوانهم في الدين، هي نفسها تحتاج إلى سند يثبت وجود تلك العزلة. فمواضعهم في أعالي الحجاز، على اتصال ببلاد الشام، وهي لا تبعد كثيرًا عن مساكن إخوانهم في فلسطين. ثم إنهم كانوا على اتصال مستمر بهم بالتجارة، وقد كانوا يشترون حاصل بلاد الشام من خمور وحبوب وما شاكل ذلك، وينقلونه إلى يثرب، يذهبون إليها للتعامل والاتجار، فكيف يكون يهود جزيرة العرب في معزل عن غيرهم مع وجود الأسفار والتجارة لا سيما أن أحبار "طبرية" كانوا يأتون إلى يهود اليمن ليلقنوهم أمور الدين، ولا يستبعد أن يكون من بين أولئك الأحبار من ذهب إلى يهود يثرب أو خيبر أو تيماء.
فالقضية على ما يظهر، ليست قضية عزلة يهود جزيرة العرب عن بقية يهود وانفصالهم بذلك ثقافيا وعلميا عن بني دينهم انفصالا يؤثر في مستواهم الثقافي والعلمي، فيجعلهم دون غيرهم من إخوانهم في العلم والثقافة، إنما يظهر أن هنالك جملة عوامل حالت دون نبوغ أحد فيهم. فيهود جزيرة العرب مهما قيل عنهم وعن رقيهم وارتفاع مستواهم عن مستوى من كان في جوارهم، لم يكونوا في ثقافتهم وفي مستواهم الاجتماعي أرقى من الفلاحين وسكان القرى وما إليها في العراق أو فلسطين أو مصر، كما أن حالتهم المادية لم تكن على مستوى عال بحيث يمكن أن تقاس بالأحوال المادية التي كان عليها اليهود الآخرين في الأرضين المشار إليها، أو أصحاب تلك الأرضين من غير يهود. ثم إن عددهم مهما قيل فيه، لم يكن كبيرا. وقد راينا أن رجالهم المحاربين لم يكونوا يتجاوزون كلهم في الحجاز كله بضعة آلاف، وفي مثل هذا العدد والظروف والأحوال لا يمكن بالطبع أن تتوفر الإمكانيات المساعدة على البحث والتتبع والتعمق في العلم.