عبرانية لا شك في أصلها وجدت لها سبيلا إلى عربية الجاهليين بسبب اتصال اليهود بهم، واستعمالهم إياها، فتأثر بهم الجاهليون وأخذوها منهم واستعملوها أيضًا فصارت من المعربات.
وينسب إلى الشاعر "الأسود بن يعفر" بيت شعر هو:
سطور يهوديين في مهرقيهما ... مجيدين من تيماء أو أهل مدين١
وإذا صحت نسبة هذا البيت إليه، يكون قد تعرف على يهوديين اثنين، وجدهما يجيدان الكتابة، وقد كتبا على المهارق. ولم يكن الشاعر على علم أكيد بموطنهما، فلم يدر إذا كانا من أهل تيماء أو من أهل مدين.
ولتعبير "مجيدين" أهمية خاصة، إذ يشير إلى تمييزه بين الكتابة الجيدة والكتابة الرديئة، وإلى وجود مصطلح "مجيد" عند الجاهليين، يطلقونه كما نطلقه اليوم على من يجيد الكتابة ويتقنها.
ولما كانت اللغة العبرانية لغة الدين عند العبرانيين، وبها نزل الوحي على موسى، فلا بد أن يكون لعلمائهم ورجال دينهم في جزيرة العرب علم بتلك اللغة وفقه بها. ولكن هذا لا يعني ضرورة كونهم كعلماء طبرية أو قيصرية في فلسطين أو بعض المواضع التي اشتهرت بعلمائها في التلمود بالعراق، ولست أستبعد أن يكون لهم علم بلغة بني إرم أيضًا، لأن هذه اللغة كما نعلم كانت لغة العلم والثقافة قبل الميلاد وبعده، وبها كتبت كتب عدة من التلمودين، ثم إنها انتشرت بين سواد الناس حتى صارت لغة سواد يهود يتكلمون بها ولو برطانة وبلهجة خاصة هي اللهجة التي يمتاز بها سواد اليهود في كل قطر يعيشون فيه.
أما سواد يهود جزيرة العرب في الجاهلية: فلا أظن أنهم كانوا يتلكمون العبرانية أو لغة بني إرم، إنما أرى أنهم كانوا يتكلمون لهجة من هذه اللهجات العربية. أعني لهجة العرب الذين كانوا يعيشون بينهم وينزلون بين أظهرهم، ولم يرد في الأخبار ما يفيد أنهم كانوا يتحادثون بالعبرانية، بل الذي ورد أن عامتهم لم تكن تعرف تلك اللغة، وأن الخاصة منهم والمزاولين لحرفة الكتابة
١ ناصر الدين الأسد، مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التأريخية، "ص٨٢".