للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الطرق التجارية عنها. ويظهر أن لاشتراك القبائل في الفتوح، ونزولها في العراق وفي بلاد الشأم والأماكن الغنية الأخرى بعد دخول هذه الأماكن في الإسلام أثرًا في هجرة الناس عن مواضع العيون والآبار في الحجاز وفي بقية جزيرة العرب، لقلة خيراتها وحاصلاتها وعدم تعلق الفلاح بالأرض في تلك الأماكن. أما في الوطن الجديد الذي حمله الفتح إليه، فقد وجد فيه خيرًا كثيرًا وأرضًا وماءً وجوًّا ألطف وأرق من الجو الذي كان يعيش فيه، وبذلك خسرت جزيرة العرب عددًا كبيرًا من سكانها، ممن فضل الهجرة على القعود.

ومن يقرأ كتاب "صفة بلاد اليمن ومكة وبعض الحجاز" وكتبًا أخرى من هذا القبيل، يعجب من التدهور الذي أصاب الزراعة في جزيرة العرب بعد الإسلام، إذ يجد أسماء مواضع عديدة كانت تكفي نفسها، أو تصدر الحاصل الزراعي إلى الأسواق المجاورة، ثم قل حاصلها كثيرًا بإهمال الزراعة. وإعراض الناس عنها، حتى بعض النواحي القريبة من مكة والمجاورة لها، كانت مشهورة بالخضر والفواكه والأزهار والرياحين، ثم فقدت شهرتها من بعد. وذكر "ابن المجاور" أن موضع "الزهران" كان معروفًا بزراعة "الزعفران"، وكان الموظفون يجبون جباية لا بأس بها منه ومن الزرع والضرع وسقي الأنهار. "فلما دار الدهر، نقص جميع ما ذكرناه، لاختلاف النيات مع قلة الأمانات"١. وفي هذا الكتاب أمثلة عديدة على هذا التدهور المؤسف الذي حل بالزرع وبالماء وبالأيدي العاملة المشتغلة بإصلاح الأرض، والذي كان من جملة أسبابه ما قلته من هجرة المتمولين والمثرين والسادة الكبار من الحجاز وبقية جزيرة العرب إلى العراق وبلاد الشأم، لوجود مجال واسع للإثراء، لا مثيل له في جزيرة العرب.

وللعرب مصطلحات كثيرة في الإرواء وفي سقيهم وسقي إبلهم، لارتباط حياتهم بالماء، ولأثر الحر والعطش والجفاف فيهم وفي أموالهم، وفي جملة هذه المصطلحات "الشريعة"، "مورد الشاربة التي يشرعها الناس فيشربون منها ويستقون. وربما شرعوها دوابهم، فشرعت تشرب منها. والعرب لا تسميها شريعة حتى يكون الماء عدًّا لا انقطاع له، ويكون ظاهرًا معينًا لا يستقى بالرشاء. وإذا كان من السماء والأمطار، فهو الكرع. وقد أكرعوه إبلهم فكرعت فيه وسقوها بالكرع. وهو مذكور في موضعه كالمشرعة"٢. وتقابل هذه اللفظة لفظة "مشترعن" في


١ ابن المجاور "١/ ٩".
٢ تاج العروس "٥/ ٣٩٥"، "شرع".

<<  <  ج: ص:  >  >>