للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بليّ١، وقد فسر "ابن سعد" جملة: "وأنهم لا يحشرون"، بقوله: "لا يحشرون من ماء إلى ماء في الصدقة"، وعبارة: "لا يعشرون" بقوله: "ولا يعشرون -يقول- في السنة إلا مرة", وفسر "السعاية" الواردة في الكتاب بالصدقة٢. وعندي أن الحشر يجب أن يكون في معنى له صلة بالجلاء، أو بالجمع لسخرة وتكليف بقيام عمل إجباري. وقد ورد في كتب اللغة أن الحشر الجلاء؛ ولذلك قيل في بني النضير عندما أجلوا: إنهم أول حشر حشر إلى أرض المحشر، كما قالوا: يوم المحشر وأرض المحشر, والحشر أيضا بمعنى إجحاف السنة الشديدة بالمال٣. فللفظة إذن علاقة بالإجلاء وبالسخرة وبالندبة إلى الحرب أو للقيام بعمل إجباري جماعي, ولا زال أهل العراق يستعملون لفظة "الحشور" في معنى جمع الناس للسخرة، ولأي عمل تريده الحكومة إجبارًا.

و"العشر" كما يتبين من النصوص الجاهلية ومن الموارد الإسلامية، أقدم ضريبة معروفة عند العرب، وهي ضريبة عامة تشمل أرباح التجارة كما تشمل أرباح الزراعة, وقد عرفت في جميع أنحاء جزيرة العرب. وهي في الواقع من أقدم الضرائب المعروفة في التاريخ, فرضتها الحكومات والأديان على الأتباع منذ أقدم العصور.

ولم أقف على وجود "العُشَّار" في مكة أو في يثرب أيام الجاهليين، ولكن هذا لا يعني نفيًا لوجود هذه الضريبة عند أهل المدينتين. ولا أستبعد وجودها عندهم، وذلك أنهم كانوا يأخذونها من المتبايعين في الأسواق لصرفها في الشئون العامة المتعلقة بمجتمعهما، فقد كان لكل سوق في الجاهلية عشارون يجمعون العشر, فلا داعي لاستثناء سوقي مكة والمدينة من العشر.

وقد سبق لي أن ذكرت أن سادات مكة كانوا قد اتفقوا فيما بينهم على أن يقدموا من أموالهم مالًا للرفادة ولتحمل الأشناق ونفقات الدفاع عن المدينة, يدفعها كل إنسان حسب قابليته المالية وإمكانياته. ولعلهم كانوا يأخذون من أرباحهم التي يحصلون عليها من القوافل نصيبًا معلومًا قبل توزيعها على المساهمين؛ ليكون عونًا للمدينة في تمشية أعمالها وفي الدفاع عن شئونها.


١ "وأنهم لا يحشرون ولا يعشرون"، ابن سعد "١/ ٢٧٠".
٢ ابن سعد "١/ ٢٧٠ وما بعدها".
٣ تاج العروس "٣/ ١٤١ وما بعدها"، "حشر".

<<  <  ج: ص:  >  >>