نتمكن من الوقوف على الاتصال الفكري الذي كان بين العرب وغيرهم، وبها نتمكن أيضًا من الوقوف على مدى الاتصال ومقدار تغلغله في جزيرة العرب. وبأمثال هذه الدراسة سنتمكن أيضًا من تكوين صورة علمية صحيحة للتأريخ الجاهلي وهي صورة ستغير، ولا شك، كثيرًا من هذه الآراء القديمة عند كثير من الناس عن الجاهليين، تكونت من دراستهم لروايات أهل الأخبار عن العرب قبل الإسلام.
ولم يخفَ أمر هذه المعربات عن قدماء علماء اللغة، فقد أدركوا وجودها ودخولها في العربية قبل الإسلام، وألفوا فيها، وأشاروا إليها في معجمات اللغة ووضع بعضهم بحوثًا في معربات القرآن. وهي تفيدنا فائدة كبيرة بالطبع في الوقوف على الصلات الثقافية التي كانت بين العرب والعالم الخارجي قبل الإسلام، وإن كانت تلك البحوث والمؤلفات قد كتبت بطريقة ذلك العهد، استنادًا إلى الروايات دون التثبت منها وتعرف أصولها وتتبع مواردها, بدراسة اللغات الأجنبية ومقارنتها ومطابقتها بالأصل. وهي طريقة أوقعتهم في أغلاط، ولكنها أفادتنا مع ذلك فائدة كبيرة في معرفة هذا الغريب الدخيل، وفي تكوين رأي في الدراسات اللغوية عند علماء اللغة القدامى١.
وقد عثر الرحالون والمنقبون على ألواح من الخشب وعلى شبابيك ومواد خشبية أخرى في اليمن وفي حضرموت منقوشة نقشًا بديعًا ومحفورة حفرًا يدل على دقة الصنعة وإتقان في العمل. وهي شاهد على تمكن النجار من مهنته، وعلى قدرته فيها، وعلى حسن استعماله ليده وعلى سيطرته عليها في استخدامها للأدوات النجارية, في صنع النفائس والطرائف من الخشب.
والحرف وراثية في الغالب, يتعلمها الابن عن والده، وتنحصر في العائلة فتنتقل من الآباء إلى الأبناء. ولا يسمح لغريب أن يتعلم أسرار الحرفة وأن يقف عليها وخاصة في الحرف المربحة, وفي الحرف التي تحتاج إلى مهارة ودقة وذكاء؛ خوفًا من وقوع المنافسة، وانتقال سر العمل والنجاح إلى شخص غريب, فينافس أصحاب الحرفة في عملهم, وينتزع منهم رزقهم. لذلك حُوفظ على أسرار المهنة، ولم يبح بأسرارها حتى لأقرب الناس إليهم، وفي حالة اكتشاف رجل طريقة جديدة غير
١ المعرب، للجواليقي، الإتقان في علوم القرآن، للسيوطي "١/ ٢٣١".