من السنين، يوم هروب الإنسان من الأرض، ولا ينظرون إليه إلا كما ينظر الإنسان الأمي الجاهل إلى مبدأ الكتابة أو إلى اختراع النار أو الطباعة أو غير ذلك من المخترعات التي إذا مضى وقت طويل على اختراعها نسيتها ذاكرة البشر، ونسيت كل أثر تركته في تطور حياة هذا الإنسان المغامر المغرم بالبحث عن المجهول.
ولعلي لا أخطئ إذا قلت: إن الإنسان قد فكر في الكتابة منذ أيامه الأولى, أي: منذ شعر بنفسه، وصار يُعبر عما في ذاته، فكر بها لأنه كان في حاجة إلى تسجيل أعماله ومعاملاته وكلامه، ليتمكن من تذكرها عند الحاجة وإلى مراجعتها. كما فكر في تسجيل حوادثه وشعوره وتأثره بالمرئيات الجميلة أو المحزنة، وبالخواطر التي كانت تمر عليه، وبكل إحساسه وعواطفه. وكان كلما تقدم عقله وتوسعت مداركه شعر بحاجته إلى تدوين أعماله وأحاسيسه، فعمد إلى الطرق البدائية في التدوين. ثم طورها تدريجيًّا حتى وصل إلى مرتبة الكتابة الصورية، أي: إنه استخدم الصور في مقام الألفاظ. بأن يرسم صورة، فإذا رآها أحد عرفها وسماها باسمها. وعرفت هذه الطريقة بالكتابة الصورية. غير أن هذه الطريقة وإن عبرت بعض التعبير عن مشاعر الكاتب، إلا أنها كانت عاجزة عن التعبير عن الأمور الروحية وعن الألفاظ المعنوية، وعن الأمور الحسابية وغير ذلك. لذلك لم يقنع بها بل أخذ يشحذ ذهنه لإيجاد طريقة أخرى مختصرة وبسيطة ولها قابلية على رسم المعاني والإحساس، فأوجد من الكتابة الصورية اختزالًا نسميه: الكتابة المقطعية. أي: إنه اختزل الصور، وجزأها إلى مقاطع. وأخذ منها مقاطعها الأولى. فسماها بأسمائها الأصلية. فوصل بذلك إلى مرحلة المقاطع. وتمكن بسليقته وبذكائه من تحليل الأسماء والألفاظ التي يراد تدوينها إلى مقاطع، وتدوين أي كلمة بمقاطعها التي تتألف منها. وقد سهلت هذه المرحلة عليه كتابة الكلمات التي تعبر عن الآراء, ومن تسْجيل جمل وصفحات فيها ألفاظ مادية محسوسة وألفاظ ليست بمسميات لأشياء مادية وإنما هي تعبير عن معان وإحساس. مثل: موت وحياة ورأي وما شاكل ذلك. إلا أنه وجد أن هذه الطريقة لا تزال طريقة صعبة عسيرة، وأن على الإنسان أن يحفظ صور مئات من العلامات التي تعبر عن المقاطع لتدوين رسالة. لذلك فكر في اختزالها أيضًا وفي غربلتها وجزم المقاطع للوصول إلى الجذور الأساسية للألفاظ, وقد نجح في عمله هذا فتوصل إلى إيجاد الحروف. فبلغ بذلك النهاية.