للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أناس مجربين أذكياء لهم صفاء ذهن وقوة ملاحظة مثل: "أكثم بن صيفي" و"قس بن ساعدة الإيادي" وغيرهما ممن سيأتي الكلام عليهم. روي أن "عمر بن الخطاب" قال لكعب الأحبار وقد ذكر الشعر: "يا كعب، هل تجد للشعراء ذكرًا في التوراة؟ فقال كعب: أجد في التوراة قومًا من ولد إسماعيل، أناجيلهم في صدورهم، ينطقون بالحكمة، ويضربون الأمثال، لا نعلمهم إلا العرب"١. فالعرب هم أصحاب حكمة وأمثال على رأي "كعب الأحبار" إن صح أن هذا القول المنسوب إليه هو من أقواله حقًّا، والأمثال باب من أبواب الحكمة. بل تكاد تؤدي معناها عند الجاهليين، فالحكيم عندهم هو الذي ينطق بالحكم يقرنها بالأمثال، وبالقصص والنوادر.

وإذا بحثت عن الحكمة في العهد القديم تجدها في الأمثال، وفي سفر أيوب، وفي نشيد الأنشاد، وفي سفر الجامعة والحكمة وفي "سيراخ"، وفي حكمة "سليمان" التي هي في المزامير٢. وهي أمثال في الغالب نبعت من تجاربٍ أَخَذَ العبرانيون بعضها من غيرهم، ونبع بعض آخر من تجاربهم الخاصة، وظهرت عندهم أمثال إنسانية عامة تخطر على بال كل إنسان، فهي عامة مشتركة، لم يأخذها قوم من قوم، وإنما هي خاطرات وتجارب تظهر لكل إنسان، فضرب بها المثل في كل لسان.

ونحن لا نملك في هذا اليوم كتابة جاهلية، فيها حكم من حكم الجاهليين. وكل ما ورد إلينا من حكمهم مأخوذ من موارد إسلامية. ولذلك صار كلامنا على الحكمة في الجاهلية مثل كلامنا على سائر معارف الجاهليين، ضيقًا محدودًا، منبعه ما ورد عنها عند المسلمين.

ويظهر من بعض الحكم المنسوبة إلى الجاهليين، أنها ترجع إلى أصل يوناني، حيث نجدها مدوّنة في كتب فلاسفتهم مثل: سقراط وأفلاطون وأرسطو، مما يدل على أنها دخلت إلى العربية عن طريق الترجمة من اليونانية أو من السريانية، وعن طريق بلاد الشأم في الأغلب، حيث كانت الثقافة اليونانية قد وجدت لها سبيلًا هناك، بحكم خضوعها لليونانيين قبل الميلاد وبعد الميلاد، وبحكم وجود جاليات يونانية كبيرة هناك.


١ العمدة "ص٢٥"، القاهرة ١٩٦٣م.
٢ Hastings, p. ٩٧٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>