للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

"الطواف حول البحر الأريتري" "Periplus mare Erythrae" أن سكان سواحل البحر الأحمر الذين كانوا يقيمون بين مدينة "Leuke Kome"، وميناء "Muza" يتكلمون بلهجات مختلفة ولغات متباينة، قلّ منهم من يفهمها عن الثاني، وبعضها بعيد عن بعض بعدًا كبيرًا١. وقد عاش مؤلف هذا الكتاب في القرن الأول للميلاد، والساحل الذي ذكره هو ساحل الحجاز.

وأصبح اليوم من الأمور المعروفة أن أهل العربية الجنوبية كانوا يتكلمون بلهجات تختلف عن لهجة القرآن الكريم، بدليل هذه النصوص الجاهلية التي عثر عليها في تلك الأرضين، وهي بلسان مباين لعربيتنا، حيث تبين من دراستها وفحصها أنها كتبت بعربية تختلف عن عربية الشعر الجاهلي، وبقواعد تختلف عن قواعد هذه اللغة٢. وهي لو قرئت على عربي من عرب هذا اليوم، حتى إن كان من العربية الجنوبية، فإنه لن يفهم منها شيئًا، لأنها كتبت بعربية بعيدة عن عربية هذا اليوم، وقد ماتت تلك العربية بسبب تغلب عربية القرآن عليها.

كما عثر في العربية الغربية وفي مواضع أخرى من جزيرة العرب على نصوص معينية ولحيانية وثمودية وغيرها، وهي مختلفة بعضها عن بعض، ومختلفة أيضًا عن "العربية" لغة القرآن الكريم.

ومع إدراك الرواة وعلماء اللغة وجود الخلاف في ألسنة العرب، فإنهم لم يدونوا اللهجات على أنها لهجات مستقلة ذات طابع لغوي خاص، لها قواعد نحوية وصرفية، تختلف اختلافًا متباينًا عن نحو وصرف عربية القرآن الكريم، وإنما "تناقلوا من ذلك أشياء كانت لعهد الإسلام، وأشياء أصابوها في أشعار العرب مما صحت روايته قبيل ذلك. أما سواد ما كتبوه، فقد شافهوا به العرب في بواديها وسمعوه منهم، وهو بلا ريب من بقايا اللهجات التي كانت لعهد الجاهلية"٣.

على أنهم لم يدونوا من كل ذلك إلا كفاية الحاجة القليلة في تصاريف الكلام أو ما تنهض به أدلة الاختلاف بين العلماء المتناظرين من شواهد في الغريب والنادر وفي القواعد. أما تدوين اللهجات على أنها أصل من أصول اللغة، وأما تسجيل


١ The Periplus of the Erythrean Sea, ٢٤
٢ الصفة "١٣٤".
٣ الرافعي، تاريخ آداب العرب "١/ ١٢٣ وما بعدها".

<<  <  ج: ص:  >  >>