للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قواعد صرف ونحو تلك اللهجات، فهذا ما لم يحفل به أحد، ولم يقدم عليه عالم فيما نعلم من أخبار الكتب التي وصلت إلينا، لأن أكبر غرضهم من جمع اللغة وتدوينها يرجع إلى علوم القرآن والحديث، ولغتهما اللغة الفصحى، اللغة التي تعلو على اللغات، أما ما دونها فلغات دونها في المنزلة والفصاحة، وألسنة شاذة غير فصيحة، ليس من اللائق بالعالم إضاعة وقته في البحث عنها، وفي التنقيب في قواعد نحوها وصرفها، وهي فوق ذلك لغات بطون وعشائر وقبائل ومواضع، ليس لها أتباع كثيرون، وقد أقبلوا على استعمال عربية الإسلام، وفي إحياء العربيات الأخرى إحياء للجاهلية١.

"رأينا علماء اللغة وأهل العربية قد طرحوا أمثلة اختلاف اللغات في كتبهم، فلا قيمة لها عندهم إلا حيث يطلبها الشاهد وتقتضيها النادرة في عُرض كلامهم، لأنهم لم يعتبروها اعتبارًا تأريخيًّا، فقد عاصروا أهلها، واستغنوا بهذه المعاصرة عن توريث تأريخها لمن بعدهم، ولو أن منهم من نصب نفسه لجمع هذه الاختلافات وإفرادها بالتدوين بعد استقصائها من لهجات العرب، وتمييز أنواعها بحسب المقاربة والمباعدة، والنظر في أنساب القبائل التي تتقارب في لهجاتها والتي تتباعد، وتعيين منازل كل طائفة من جزيرة العرب والرجوع مع تأريخها إلى عهدها الأول الذي يتوارث علمه شيوخ القبيلة وأهل أنسابها لخرج من ذلك علم صحيح في تأريخ اللغة وأدوار نشأتها الاجتماعية، يُرجع إليه على تطاول الأيام وتقادم الأزمنة، ولكان هذا يعد أصلًا فيما يمكن أن يسمى تأريخ آداب العرب، يفرعون منه ويحتذون مثاله في الشعر وغيره من ضروب الأدب.

ولكن القوم انصرفوا عن هذا وأمثاله لاعتقادهم أصالة اللغة، وأنها خلقت كاملة بالوحي والتوقيف، وأن أفصح اللهجات إنما هي لهجة إسماعيل عليه السلام، وهي العربية القديمة الجيدة كما قال سيبويه"٢.

"وعلى هذا اعتبروا لهجات العرب لعهدهم كأنها أنواع منحطة خرجت عن أصلها القرشي بما طرأ عليها من تقادم العهد وعبث التأريخ، فلم يجيئوا ببعضها إلا شاهدًا على الفصاحة الأصلية في العربية وخلوها من التنافر والشذوذ، وتمامًا


١ الرافعي، تأريخ آداب العرب "١/ ١٢٣ وما بعدها".
٢ الرافعي "١/ ١٣٣ وما بعدها".

<<  <  ج: ص:  >  >>