للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

حجاجها وغيرهم يفدون إلى مكة للحج ويتحاكمون إلى قريش في أمورهم وكانت قريش تعلمهم مناسكهم وتحكم بينهم. ولم تزل العرب تعرف لقريش فضلها عليهم، وتسميها أهل الله؛ لأنهم الصريح من ولد إسماعيل عليه السلام، ولم تشبهم شائبة، ولم تنقلهم عن مناسبهم ناقلة، فضيلة من الله جل ثناؤه، لهم وتشريفًا، إذ جعلهم رهط نبيه الأدنين وعترته الصالحين. وكانت قريش مع فصاحتها وحسن لغاتها ورقة ألسنتها إذا أتتهم الوفود من العرب تخيروا من كلامهم وأشعارهم أحسن لغاتهم وأصفى كلامهم. فاجتمع ما تخيروا من تلك اللغات إلى نحائزهم وسلائقهم التي طُبعوا عليها، فصاروا بذلك أفصح العرب. ألا ترى أنك لا تجد في كلامهم عنعنة تميم، ولاعجرفية قيس، ولا كشكشة أسد، ولا كسكسة ربيعة، ولا الكسر الذي تسمعه من أسد وقيس"١.

وروي عن "قتادة" قوله: "كانت قريش تجتبي -أي: تختار- أفضل لغات العرب، حتى صار أفضل لغاتهم لغتهم، فنزل القرآن بها"٢.

ثم إنها كانت بعيدة عن الأعاجم، فصان بعدها عنهم لسانها عن الفساد، وحفظها من التأثر بأساليب العجم، حتى إن سائر العرب على نسبة بعدهم من قريش كان الاحتجاج بلغتهم في الصحة والفساد عند أهل الصناعة العربية٣.

ولكننا نجد خبرًا يذكر أن "عثمان" قال للرهط الذين أمرهم بجمع القرآن وكتابته: "اجعلوا المملي من هذيل، والكاتب من ثقيف"٤، وليست هذيل ولا ثقيف من قريش. ونجد خبرًا آخر يذكر أنه كانت غمغمة في لغة قريش، والغمغمة من اللغات الرديئة التي أخذها علماء اللغة على اللغات العربية الأخرى٥، فكيف تتفق الغمغمة مع ما ذكره من صفاء ونقاء وسهولة وبيان لغة قريش! ثم نجد خبرًا يذكر أن الخليفة "أبو بكر"، لما هم بجمع القرآن، بعد إلحاح


١ الصاحبي "٥٢ وما بعدها"، "باب القول في أفصح العرب"، المزهر "١/ ٢١٠"، غريب القرآن "١/ ١٠".
٢ اللسان "٢/ ٧٧"، "١/ ٥٨٨"، "صادر"، "عرب".
٣ مقدمة ابن خلدون، الفصل الثامن والثلاثون من القسم السادس، الهلال، السنة ٢٦، "أكتوبر ١٩١٧م"، "١/ ٤٣".
٤ الصاحبي "٥٨".
٥ تاج العروس "٩/ ٦"، "غمم".

<<  <  ج: ص:  >  >>