للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

في مقاييس علماء اللغة من حيث الفصاحة والركاكة وما بينهما من درجات. والفصيح في نظر علماء العربية "ما كثر استعماله في ألسنة العرب ودار في أكثر لغاتهم، لأن تكراره على الألسنة المستقلة بطبيعتها في سياسة المنطق دليلٌ على تحقيق المناسبة الفطرية فيه"١.

ويسوقنا البحث في موضوع اللغة العربية الفصحى إلى التفكير في موضوع له صلة وثيقة بهذا الموضوع، بل هو في الواقع جزء منه، هو: لغة الأدب عند الجاهليين، وهل كان لأهل الجاهلية لسان عربي واحد مبين، استعملوه في التعبير عن عواطفهم شعرًا أو نثرًا؟ وإذا كان لهم ذلك اللسان، فهل كان فوق سائر لهجاتهم المحلية أو لهجات القبائل المتعددة؟ أو أنه كان لهجة خاصة؟ وإذا كان لهجة عالية خاصة، فلهجة من يا ترى كانت هذه اللهجة؟ وبأي موطن ولدت؟ وهل كانت لهجة عامة مستعملة عند العرب عامة، من عرب جنوبيين وعرب شماليين، أو أنها كانت لهجة خاصة بالعرب الشماليين؟ ثم هل كانت هذه اللهجة هي العربية التي نزل بها القرآن، أم كانت عربية أخرى لا صلة لها بها؟ أماتها الإسلام كما أمات أمورًا من أمور الجاهلية لصلتها بالوثنية، وأحل محلها لغة القرآن، لغة قريش؟ ثم هل كانت هذه العربية، هي عربية الشعر، بمعنى أن الشعراء كانوا إذا أرادوا النظم، نظموا شعرهم بهذه اللغة العالية، متجاهلين لغتهم القبلية، لأنها لغة الأدب الرفيع، وبها كان يخطب الخطباء؟

لقد عُني عدد من المستشرقين بالإجابة عن أمثال هذه الأسئلة. فكتب "نولدكه"، رأيه في الموضوع في كتابه: تأريخ القرآن في باب القراءات واللهجات التي نزل بها القرآن الكريم، كما تطرق إليه أيضًا في أثناء كلامه على الشعر الجاهلي ولغة الأدب عند الجاهليين، وخلاصة رأيه أن الفروق بين اللهجات في الحجاز ونجد ومناطق البادية المتاخمة للفرات لم تكن كبيرة، وأن اللهجة الفصيحة شملت جميع هذه اللهجات٢. وذهب "غويدي" إلى أن اللغة الفصحى هي مزيج من لهجات تكلم بها أهل نجد والمناطق المجاورة لها، ولكنها لم تكن لهجة معينة لقبيلة معينة٣.


١ المزهر "١/ ١٢٦".
٢ Noldeke, Geschichte des Korans. Zweite Auflage, Erste Teil, S. ٤٢, Neue Beitrage zur Semitischen Sprachwissenschaft, Strassburg, ١٩١٠, s. I -١٤.
٣ Guidi, Mix. Ling, Torino, ١٩٠١, p. ٣٢٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>