للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

اخترعوها على أساس كثرة من اللهجات الدارجة، ولكن هذه اللغة لم تكد تكون لغة جارية في الاستعمال العام، بل كانت لغة فنية قائمة فوق اللهجات، وإن غذتها جميع اللهجات١.

وذهب "برجيه" إلى أن العربية كانت لهجة قبلية صغيرة وصلت في وقت من الأوقات بفضل ظروف محلية إلى درجة من الكمال خارقة للعادة، هي مدينة بانتشارها إلى الإسلام٢.

و"ريجيس بلاشير" من المستشرقين الذين أيدوا رأي من ذهب إلى وجود لغة عالية عند أهل الجاهلية، فقال: "إن وجود لهجات ولغة عليا ليس فيه شيء مخالف للعادة، كما أن نموّ لهجة شعرية ليس فيه أيضًا شيء خارق"٣.

واللغة المذكورة لهجة شعرية تنطبق على اللهجات المحلية، بل هي امتداد لها، "وهي في الجملة موضوعة للأغراض النبيلة والتعبير الفني عن بعض أنواع التفكير"، لها خصائص اللهجات في وسط الجزيرة وشرقيها، ولم تكن هذه اللهجة العالية قاصرة في الاستعمال على أهل جزيرة العرب، بل كانت لغة الشعر أيضًا عند عرب العراق وعرب بلاد الشأم. ولهذا كان الشعر مفهومًا عند جميع الجاهليين، أينما كانوا: سواء كانوا في جزيرة العرب، أم في العراق وفي بلاد الشام.

وكانت الفوارق بين هذه اللهجة وبقية اللهجات تختلف تبعًا للمجموعات اللغوية.

فالفارق ضئيل بينها وبين لهجات أواسط جزيرة العرب وشرقيها، ولها خصائص الأقسام الشرقية والوسطى من جزيرة العرب. وكان الشاعر، ينزع دومًا إلى الابتعاد عن مؤثرات لهجته القبلية، والارتفاع عنها، إلى لغة الشعر المتعارفة بين الجاهليين آنذاك، لكونها اللغة الرفيعة في نظر أهل الجاهلية، وكانت تدل على تهذيب الشاعر وسمو مداركه وثقافته٤.

ويرى "بلاشير" أن علماء اللغة والنحو حين أخذوا بضبط قواعد اللغة، غربلوا اللهجات، وتوغلوا بين الأعراب مدفوعين بعقلية تنهيج وتنقية اللغة مما أدى بهم


١ بروكلمن، تأريخ الأدب العربي "١/ ٤٢".
٢ ريجيس بلاشير، تأريخ الأدب العربي "٨٦".
٣ تأريخ الأدب العربي "٨٨"، "تعريب إبراهيم كيلاني".
٤ ريجيس بلاشير، تأريخ الأدب العربي "٨٧ وما بعدها".

<<  <  ج: ص:  >  >>