للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كان هؤلاء يبالغون في انتقاد اللهجات وانتقاء الأفصح منها. وهذا هو الدور الأخير من أدوار التهذيب اللغوي إذ يدخل في حالة عامة يشيع فيها المنطق الفصيح وتبلغ بها اللغة درجة عالية من النشوء ليس بعدها إلا موت الضعيف وتحوله إلى شكل أثري لا منفعة منه للمجموع المكوّن على هذه الطريقة، ولكنه يدل على أصل التكوين"١.

ثم توّج عمل قريش في تهذيب اللغة بنزول القرآن بلسانها "فإن هذا القرآن لو لم يكن بلسان قريش ما اجتمع له العرب البتة ولو كانت بلاغته مما يميت ويحيي، ثم كانوا لا يُعدون في اعتبارهم إياه أنه ضرب من تلك الضروب التي كانت لهم من خوارق العادات: كالسحر والكهانة وما إليهما، وهو الذي افترته قريشٌ ليصرفوا به وجوه العرب ويميلوا رؤوسهم عن الإصغاء إلى النبي"٢. ثم "إن القرآن لو نزل بغير ما ألفه النبي صلى الله عليه وسلم، من اللغة القرشية وما اتصل بها، كان ذلك مغمزًا فيه، إذ لا تستقيم لهم المقابلة حينئذ بين القرآن وأساليبه، وبين ما يأثرونه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، فيهوّن ذلك على قريش، ثم على العرب، فيجدون لكل قبيلة مذهبًا من القول فيه، فتنشق الكلمة، ثم يصير الأمر من العصبية والمشاحنة والبغضاء، إلى حال لا يلتئم عليه أبدًا، ولو أن شاعرًا من شعرائهم ظهر فيهم بدين خيالي وأقامهم عليه، لكان في الرجاء والاحتمال أن يستجيبوا له دون صاحب القرآن الذي ينزل عليه بلغة غير لغة قبيلته"٣.

ومجمل حجج الباقين القائلين إن العربية الفصحى هي عربية قريش، أن قريشًا "كانت مهوى أفئدة العرب في الجاهلية، وكان لها عليهم نفوذ واسع بسبب مركزها الديني الروحي والاقتصادي المادي، إذ كانت حارسة الكعبة بيت عبادتهم، وكانت قوافلها تجوب أنحاء الجزيرة العربية، وكان العرب يجتمعون إليها في أعيادها الدينية وفي أسواقها القريبة والبعيدة.

ومعنى ذلك أن هنالك أسبابًا دينية واقتصادية أعدت لهجة مكة لتسود اللهجات


١ تأريخ آداب العرب "١/ ٨٧ وما بعدها"، "أسواق العرب".
٢ تأريخ آداب العرب "١/ ٤٦".
٣ المصدر نفسه "١/ ٤٧".

<<  <  ج: ص:  >  >>