للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فنتوسط ونقول: إنها سادت قبل الإسلام حين عظم شأن قريش وحين أخذت مكة تستحيل إلى وحدة سياسية مستقلة مقاومة للسياسة الأجنبية التي كانت تتسلط على أطراف البلاد العربية. ولكن سيادة لغة قريش قبيل الإسلام لم تكن شيئًا يذكر ولم تكد تتجاوز الحجاز. فلما جاء الإسلام عمت هذه السيادة وسار سلطان اللغة واللهجة مع السلطان الديني والسياسي جنبًا إلى جنب

وكان المرحوم "مصطفى صادق الرافعي"، قد تعرض لهذا الموضوع وبحث فيه قبل "الدكتور طه حسين في كتابه: "تأريخ آداب العرب"، الذي طبعه سنة "١٩١١م"، فذهب مذهب الأسلاف في أن العربية بدأت بـ"إسماعيل" فلما خرج أولاده من ديارهم وانشعبت قبائلهم، تنوعت لهجاتهم، وتباينت ألسنتهم، حتى ظهرت قريش من بينهم، فأخذت وأعطت، وهذبت الألسنة واستخلصت منها أعذبها وأسماها، ثم لا تزال تهذب في اللغة وتشذب حتى بلغت بها الكمال عند ظهور الإسلام، بنزول الوحي بها. وكانت القبائل: "بطبائعها متباينة اللهجات، مختلفة الأقيسة المنطقية المودعة في غرائزها، فكان قريش يسمعون لغاتهم ويأخذون ما استحسنوه منها فيديرون به ألسنتهم ويجرون على قياسه ولو كانوا بادين كسائر القبائل ما فعلوه، ولكن نوع الحضارة الذي اكتسبوه من تأريخهم ألان من طباعهم وكسر من صلابتهم، فاتفقت في ذلك حياتهم اللغوية وحياتهم الاجتماعية القائمة بالتجارة وتبادل العروض مع أصناف الناس. فلما اجتمع لهم هذا الأمر ارتفعت لغتهم عن كثير من مُستبشع اللغات ومستقبحها، وبذلك مرنوا على الانتقاد حتى رقّت أذواقهم، وسمت طبائعهم، وقويت سلائقهم، وحتى صاروا في آخر أمرهم أجود العرب انتقاء للأفصح من الألفاظ، وأسهلها على اللسان عند النطق، وأحسنها مسموعًا، وأبينها إبانة عما في النفس"٢.

فهذا دور من أدوار تهذيب اللغة وتنقيتها، قامت به قريش، قامت به في مسكنها وموطنها مكة، وقامت بدور آخر، كان آخر الأدوار التي قامت فيها قريش في تهذيب العربية، هو الدور العُكاظي، وهو "حالة من أحوال الحضارة، ولذلك اقتضى الصناعةَ اللسانية، فكان العرب يرجعون إلى منطق قريش، كما


١ في الأدب الجاهلي "١٠٥".
٢ الرافعي تأريخ آداب العرب "١/ ٨٥ وما بعدها".

<<  <  ج: ص:  >  >>