للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وبعد، فلقد عرضت عليك رأي المستشرقين في العربية العالية: عربية القرآن الكريم، وعربية الشعر الجاهلي. ثم عرضت عليك رأي علماء العربية فيها من متقدمين ومن معاصرين، وقد رأينا أن المستشرقين وعلماء العربية معًا، لم يستندوا كلهم على سند جاهلي مكتوب، ولا على نص مدون بهذه العربية، لسبب واحد مفهوم معقول، هو عدم ورود نصوص جاهلية مدوّنة بهذه اللغة فلم يكن أمامهم من سبيل سوى اللجوء إلى الموارد الإسلامية للاستعانة بهديها في استنباط رأي علمي بهذا الموضوع، وهذا ما فعلوه.

أما قول علماء العربية إن عربية القرآن الكريم عربية "إسماعيلية"، بمعنى أنها عربية أخرى تختلف عن عربية العرب الجنوبيين، فرأي مقبول، على شرط أنه اصطلاح يعبر عن معنى اصطلح عليه. فقد أشير إلى "الإسماعيليين" في التوراة. وهم -كما سبق أن قلت- قبائل عربية شمالية كانت تقطن في القسم الشمالي الغربي من جزيرة العرب، وكانت حدودهم الغربية على اتصال بالعبرانيين.

ولا أعتقد أن أحدًا من أصحاب الفقه في العربية، يركبه الشطط فيقول: إنه نزل بلغة عربية جنوبية، أو بلغة ثمود أو لحيان أو الصفويين، أو يقول: إن الشعر الجاهلي، قد نظم بلهجة من هذه اللهجات، فكلام مثل هذا، حتى لو صدر من أحد، فإنه هراء يدل على جهل قائله بأبسط الأشياء.

وأما دعوى أن هذه العربية وحدها هي العربية الفصيحة الصحيحة، وأن ما عداها من عربيات، فلغات فاسدة رديئة، فدعوى يمكن قبولها والتسليم بصحتها، لو أن في وسع القائلين بها إثباتها بالأدلة المادية الملموسة، أي: بأدلة النصوص الجاهلية المكتوبة، مع إثبات أن هذه اللغة الفصيحة كانت وحدها لغة الأدب والتدوين عند جميع العرب، وأن الجاهليين كانوا لا يكتبون إلا بها، وأن ما سواها من اللهجات، كانت لهجات كلام، أي: لغات العامة والسواد، تكلموا بها كما نتكلم نحن اليوم فيما بيننا بلهجات محلية، نسميها لهجات عامية، فإذا كتبوا كتبوا بالعربية الفصيحة. ولكنهم عاجزون عن إثبات ذلك، ثم أن النصوص الجاهلية تناهض دعواهم هذه، فكل ما لدينا من نصوص جاهلية، مكتوب بلهجات عربية أخرى، خلا خمسة نصوص كتبت بعربية نبطية، أي: بعربية فيها ألفاظ واردة في العربية الفصحى، ولكن الإرمية أو النبطية متحكمة في أسلوبها وفي قواعدها وفي الكثرة الغالبة من كلماتها بحيث تمنعها من أن تعدّ في عداد العربية

<<  <  ج: ص:  >  >>