الفصيحة. لذا، فنحن لا نخالف المنطق والعلم، إن أظهرنا اعتراضنا عليها ورفضناها، وما كان لنا لنعترض عليها، لو أن الأمر كان على العكس، لو أن غالبية النصوص الجاهلية كانت بهذه اللغة، أو أن بعضًا منها على الأقل، ولو بعضًا قليلًا، كان بهذه العربية الخالصة، أو أننا لا نملك نصًّا جاهليًّا بتاتًا، بأية عربية كانت، لا بهذه العربية، ولا بالعربيات الأخرى، أما وأن لدينا اليوم الألوف من النصوص الجاهلية، وهي كلها بلهجات عربية أخرى، ولا نملك نصًّا واحدًا مدونًا بهذه العربية الخالصة، لذا، فنحن لا نظلم أنفسنا، ولا نظلم غيرنا، إن رفضنا دعواهم المذكورة، وقلنا: إن اللغات التي موّنتنا بالنصوص المذكورة، هي لغات فصيحة بالنسبة للناطقين بها، وفي نظرنا أيضًا، وهي لغة أدب بالنسبة لأصحابها الكاتبين بها.
والقول بأن العربية الفصيحة هي وحدها العربية الصحيحة السليمة الفصيحة، وأن ما عداها من لغات عربية فلغات رديئة فاسدة، أو أنها دونها في الفصاحة، قول يمكن قبوله بالنسبة لأيام الإسلام، حيث صارت هذه العربية لغة الدين والحكم والفكر، بها تُقوّم الألسنة، وبها يدوّن الناس آراءهم. أما بالنسبة إلى أيام الجاهلية، فإننا لا نستطيع التسليم به، لسبب بسيط، هو أن أهل العربية الجنوبية مثلًا، كانوا يكتبون وينطقون بلغاتهم، فلغاتهم هي لغة التدوين والأدب عندهم، بقوا يكتبون بها، إلى أن دخلوا في الإسلام، فأبدلوها عندئذ بهذه العربية، بحكم الدين. ودليل ذلك، هذه النصوص المتأخرة المكتوبة بالمسند، والتي لا يبعد تأريخها عن الإسلام كثيرًا. فلو كانوا يرون أن هناك عربية أفصح منها، أو أنهم كانوا يعلمون أن هناك عربية أرفع من عربيتهم شأنًا، يدوّن ويكتب بها بقية عرب الجزيرة وأنها لغة الثقافة والعلم، لما نبذوها وعدلوا عنها إلى عربيتهم، وشذوا عن بقية إخوانهم العرب، بتمسكهم بالكتابة بها وحدها. وينطبق هذا القول على قوم ثمود والصفويين والحيانيين والنبط، فقد كتب كل قوم منهم بلغتهم، ولم يكتبوا بهذه العربية، وتدوينهم بلغاتهم، دليل على ثبوت فصاحتها عندهم، وليس في قول "أبو عمرو بن العلاء": "ما لسان حمير وأقاصي اليمن بلساننا ولا عربيتهم بعربيتنا"١، ما يدل على ازدراء شأن الحميرية. أو