للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومع وجود هذه الاختلافات والفروق، كان بإمكان المتكلمين بهذه اللغات الثانوية المتفرعة من المجموعات اللغوية، التفاهم فيما بينهم، كما يتفاهم العراقيون والمصريون وأهل المغرب بعضهم مع بعض مع تكلمهم بألسنة ذات لهجات مختلفة.

فكان في استطاعة أهل نجد التفاهم مع عرب الحيرة، وفي استطاعة أهل مكة التفاهم مع أهل الحيرة، والعكس بالعكس، مع وجود صعوبات بالطبع في فهم النطق باللهجة، وفي إدراك مخارج بعض الحروف واختلاف القبائل في النطق بها، ووجود كلمات غريبة في لغة، قد لا توجد في لغة أخرى. إلا أن هذه الفروق لم تكن شديدة عميقة، بحيث جعلت فهم العرب بعضهم بعضًا أمرًا صعبًا، أو صيرت اللغات وكأنها لغات أعجمية، لا يفهم المتخاطبون بها أحدهم الآخر.

ودليل ذلك أننا نجد الوفود التي وفدت إلى المدينة، لمبايعة الرسول على الإسلام، تكلم الرسول وتتفاهم معه ومع أصحابه، وتخطب أو تنشد الشعر أمامه، وهو يفهمهم، وهم يفهمونه من دون صعوبة ولا كلفة كبيرة، لأن أمر هذه اللغات لم يكن على نحو ما تصوره بعضهم من التباين والاختلاف، والبعد بين الألسنة.

اللهم إلا ما كان من أمر أهل العربية الجنوبية، فقد كانوا يرطنون، بدليل ما جاء في كتاب رسول الله إلى "عياش بن أبي ربيعة المخزومي" حين أرسله برسالة إلى أبناء "عبد كلال" الحميري، فقد قال له فيها: "وهم قارئون عليك، فإذا رطنوا، فقل: ترجموا" ١. وربما كان منهم من لا يفقه عربية المسلمين، الناطقين بعربية "ال"، فكان يترجم لهم بعض من لهم علم وفقه بالعربيات الجنوبية وبعربية القرآن.

وبدليل ثان، هو أن المسلمين لما حاصروا القصر الأبيض من قصور الحيرة، سمعوا أهل القصر، يصرخون: "عليكم الخزازيف"، "فقال ضرار: تنحوا لا ينالكم الرمي، حتى ننظر في الذي هتفوا به، فلم يلبث أن امتلأ رأسُ القصر من رجال متعلقي المخالي، يرمون المسلمين بالخزازيف، وهي المداحي من الخزف"٢، فلم يفهم المسلمون معنى "الخزازيف" في بادئ الأمر لكنهم عرفوا أنهم يعنون شيئًا له صلة بالدفاع عن القصر، ثم عرفوه، بعد نزول سيل من "الخزف" عليهم. وكان أهل "الحيرة" ينطقون بالعربية، فلما قال


١ ابن سعد، طبقات "١/ ٢٨٢"، "بيروت ١٩٥٧م".
٢ الطبري "٣/ ٣٦٠ وما بعدها".

<<  <  ج: ص:  >  >>