للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الساسانية والرومية والأرضين المصاقبة لهما. ومن الطبيعي أن يؤدي ذهاب التجار العرب إلى أسواق العراق وبلاد الشأم، واحتكاكهم بالفرس والروم، إلى الوقوف على أحوالهم والاتصال بهم والأخذ منهم والتأثر بثقافتهم وحضارتهم واقتباس ما يلائمهم منهم؛ ومن الطبيعي أن يؤثر التجار الروم والفرس بعض التأثير في نفوس زملائهم العرب في الأماكن التي ولجوها من جزيرة العرب، وأن ينقلوا إليهم شيئًا من آرائهم وأفكارهم وتجاربهم في الحياة، وأن يعطوهم شيئًا من مصطلحات لغتهم التي لا تعرفها العربية، ومن الأسماء الخاصة بالتجارة وبالبضائع التي يأتون بها إلى جزيرة العرب لبيعها في أسواقها.

وكان للمبشرين شأن مهم في نقل التراث اليوناني والإرمي إلى جزيرة العرب في أيام الجاهلية، وبجهادهم المضني المتواصل وعملهم المتوالي، دخلت النصرانية في أماكن متعددة قاصية من بلاد العرب، حتى تمكنوا من تنصير قبائل وأمراء ورؤساء قبائل، بطريقتهم الخاصة في الإقناع والتأثير، وبالتطبيب، وبالتقرب إلى ضعاف الحال من الناس. وقد اتبعوا في التبشير وفي إدارة المؤسسات التبشيرية النظم الإدارية والدينية المتبعة في الكنيسة، فجعلوا "بيث قطرايا"، أي "قَطَرًا" الموضع المعروف اليوم على ساحل الخليج، كرسيًّا لـ "مطرابوليطي"، يقيم فيه، ويشرف على إدارة خمسة أساقفة، يقيمون في "ديرين" و"مشمهيغ" أي: "سماهيج" وهجر وبلاد "مازون" و"حطا" المسماة "يبط أردشير"١، وهي الخط.

وفي موضع مثل نجران غلبت النصرانية على أهله، نظمت الكنيسة شئون المدينة، فتول رئيسها الديني، وهو بدرجة "أسقف"، الأمور الدينية، وتولى "السيد" أمور الحرب وإدارة المسائل الخارجية المتعلقة بعلاقة نجران بغيرها، وتولى "العاقب" الأمور الداخلية، وهم جميعًا يؤلفون معًا مجلس المدينة فيديرون معًا أمور الناس، وينظرون في كل ما يحدث بينهم من نزاع وخصومات. وهكذا نظمت العلاقات بين كنيسة المدينة وحكامها، وانسجم الحكم بين الجماعتين.

وقد أدخل التبشير ألفاظًا يونانية وسريانية ترد في الديانة وفي الحياة اليومية إلى


١ أدي شير، تأريخ كلدور وآثور، المجلد الثاني، "المقدمة".

<<  <  ج: ص:  >  >>