نزل القرآن بها. أما اللهجات والألسنة العربية الجنوبية، فإن أثر هذه المعربات فيها كان قليلًا، ونجد في كتاباتها ألفاظًا عربية جنوبية، مكان تلك المعربات.
ومعنى هذا بُعد تلك اللهجات عن المؤثرات الأعجمية الشمالية. وسبب ذلك رقي المتكلمين بها، وتقدمهم في الحضارة بالقياس إلى بقية سكان جزيرة العرب وإلى ابتكارهم أنفسهم لكثير من الأشياء، فكان من الطبيعي أن تكون أسماؤها بلغة الصانعين لها.
ولدي ملاحظة، هي أن وجود المعربات في العربية الحجازية، يدل دلالة صريحة واضحة، على أن المتكلمين بها كانوا قد تأثروا بالحضارات الشمالية أكثر من تأثرهم بإخوانهم العرب الجنوبيين، وأن اتصالهم الفكري كان بالشمال أكثر منه بالجنوب، ولا يقتصر هذا التأثر على المعربات فقط، بل يشمل كل المؤثرات الثقافية الأخرى، كالذي رأيناه في مواضع متعددة من الأجزاء المتقدمة من هذا الكتاب. فكأننا أمام ثقافتين مختلفتين وشعبين متباينين، بالرغم من اتصال حدود الحجاز باليمن، وقرب المسافة بينهما، حتى اللغة نجد بونًا شاسعًا بينها وبين اللغات العربية الجنوبية، وهذا ما حمل بعض العلماء على القول: ما لغة حمير بلغتنا، ولا لسانهم بلساننا، ففرق بين اللسانين.
أما "أمية بن أبي الصلت" فقد وردت في شعره معربات من أصل سرياني في الغالب، يظهر أنه أخذها من المنابع النصرانية التي قيل: إنه وقف عليها. فقد ذكر أنه كان قد قرأ كتب أهل الكتاب، ووقف على أخبارهم وعقائدهم، وإن اتصاله بهم أثر في رأيه الذي كونه لنفسه في الأديان. وأرى أن من اللازم توجيه العناية لدراسة ما تبقى من شعره للوقوف على أصوله، وعلى درجة تأثره بالتيارات الفكرية والآراء الدينية لأهل الكتاب، وعلى الألفاظ المعربة عن السريانية أو غيرها التي ترد في شعر هذا الشاعر، وذلك بعد التأكد من صحة الشعر.
ومن المعربات الواردة في شعر "أمية" لفظة "تلاميذ" جمع تلميذ، وذلك في هذا الشعر المنسوب إليه:
والأرض معقلنا وكانت أمّنا ... فيها مقامتنا وفيها نولد
وبها تلاميذ على قذفاتها ... حُبسوا قيامًا فالفرائص ترعد