للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والكاهن "سواد بن قارب" الدوسي١، و"ابن الهيبان"٢، والمأمور الحارثي٣، وغيرهم وغيرهم.

ولسجع الكهان، طريقة خاصة به، ميزته عن سجع غيرهم، فهو قصير الفقرات، يلتزم التقفيه وتساوي الفواصل من كل فقرتين أو أكثر، يعمد إلى الألفاظ العامة المبهمة المعماة، وإلى تكوين الجمل الغامضة، ليمكن تأويلها تأويلات متعددة، وتفسيرها بتفاسير كثيرة، لا تلزم الكاهن، فيقع في حرج، كالذي يقع لو تكلم بكلام واضح صريح. فيظهر بمظهر الجاهل الكاذب. أما السجع المنسوب إلى الخطباء، ففقره أطول، وكلمه أوضح، طويل النفس، متحرر نوعًا ما من قيود سجع الكهان، بين الفقر تطابق في الطول، وفي فقره بيان مشرق، فواصله كفواصل الشعر من دون وزن. جهد صاحبه أن يجعل الفواصل واضحة صافية، ذات مقاطع مستقلة في الغالب بمعناها، وينتهي الكلام بانتهائها من غير التزام قافية، وقد يكون مرسلًا، خالصًا من تساوي الجمل والتزام القافية، فهو بين سجع وازدواج وترسل. وقد يكون مزدوجًا، فهو سجع خفيف مقبول.

وبالإضافة إلى السجع، واستعمال الألفاظ الغامضة المبهمة، والإيماءة والرموز والتكنية عن الأشياء، تهربًا من التصريح، وحذر افتضاح الأمر، كان الكاهن يلحف في الأسئلة ويمعن في الاستفسار، حتى يستنبط من ذلك بفطنته وذكائه ما يريد السائل، فيعطيه جوابًا مائعًا، شأن جواب السحرة والعرافين، كما كان يعمد إلى القسم بظواهر الطبيعة من كواكب ونجوم، وشمس وقمر، ورياح وعواصف وسحب، وليل ونهار، وشجر وحجر، وأمثال ذلك مما نجده في خطبهم وأقوالهم، وهو شيء يلفت النظر، ويبعث على التعجب من قسم القوم بهذه الأمور. ولكن المتتبع الدارس لعقائد القوم في الجاهلية، ولحياتهم الاجتماعية لا يعجب من ذلك كما لا يعجب من قسمهم بالخبز، والملح، واللبن، والقوس، والعصا، فإن لهذه الأمور وأمثالها معانٍ عميقة عند أهل الجاهلية، فقدت أكثريتها معانيها في


١ ابن هشام "١/ ١٤٠".
٢ ابن هشام "١/ ١٤١".
٣ الأمالي "١/ ٢٧٦"، الأغاني "١٥/ ٧٠".

<<  <  ج: ص:  >  >>