للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الذي يقيد عليهم مآثرهم ويفخم شأنهم، ويهوّل على عدوّهم ومن غزاهم، ويهيّب من فرسانهم ويخوف من كثرة عددهم، ويهابهم شاعر غيرهم فيراقب شاعرهم. فلما كثر الشعر والشعراء، واتخذوا الشعر مكسبة ورحلوا إلى السوقة، وتسرعوا إلى أعراض الناس، صار الخطيب عندهم فوق الشاعر"١.

وكانوا يحبّون في الخطيب أن يكون جهير الصوت، ويذمون الضئيل الصوت.

وأن يكون مؤثرًا شديد التأثير في نفوس سامعيه حتى يسحرهم ويأخذ بألبابهم.

وكانوا يجعلون مثل هؤلاء الخطباء ألسنتهم الناطقة إذا تفاخروا أو حضروا المجالس أو تفاوضوا في أمر، أو أرادوا تأجيج نيران الحروب، أو عقد صلح، أو البت في أي أمر جلل. ولذلك صارت الخطابة من أمارات المنزلة والمكانة، فصارت في ساداتهم وأشرافهم الذين يتكلمون باسمهم في المحافل والمجامع العظام.

وقد ذكر "الجاحظ"، أن حمل العصا المخصرة دليل على التأهب للخطبة.

والتهيؤ للإطناب والإطالة، وذلك شيء خاص في خطباء العرب، ومقصور عليهم، ومنسوب إليهم. حتى أنهم ليذهبون في حوائجهم والمخاصر بأيديهم، إلفًا لها، وتوقعًا لبعض ما يوجب حملها: والإشارة بها"٢. ولا يخطب أحدهم إلا وعنده عصًا أو مخصرة، جرى على ذلك عرفهم حتى في الإسلام. "قال عبد الملك بن مروان: لو ألقيت الخيزرانة من يدي لذهب شطر كلامي"، وأراد معاوية سحبان وائل على الكلام، فلم ينطق حتى أتوه بمخصرة٣. وكانوا يعتمدون على الأرض بالقسي، ويشيرون بالعصا والقنا، ومنهم من يأخذ المخصرة في خطب السلم، والقسي في الخطب عند الخطوب والحروب. وذكر أن من عوائدهم أن يكون الخطيب على زيّ مخصوص في العمامة واللباس٤. وأن يخطب الخطيب وعلى رأسه عمامة، علامة المكانة والمنزلة عند الجاهليين. وذكر أيضًا أن من عوائدهم ألا يخطب الخطيب وهو قائد إلا في خِطبة النكاح. كما ذكر أن منهم من كان


١ البيان والتبيين "١/ ٢٤١".
٢ البيان والتبيين "٦١"، "انتقاء الدكتور جميل جبر"، "بيروت، المطبعة الكاثوليكية ١٩٥٩م"، البيان والتبيين "٣/ ١١٧"، "هارون".
٣ البيان والتبيين "٣/ ١١٩ وما بعدها".
٤ بلوغ الأرب "٣/ ١٥٢ وما بعدها"، البيان "١/ ٣٧٠ وما بعدها".

<<  <  ج: ص:  >  >>