للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ونجد في كتب الأدب والأخبار نصوص خطب نسبت إلى خطباء جاهليين، يخرج المرء من قراءتها ومن قراءة ما ذكره أهل الأخبار عنها، بأنها نصوص دقيقة تمثل الأصل تمام التمثيل، أو كأنها نسخ استنسخت عن نسخ أصلية كتبها الخطباء بأنفسهم، أو دونها كتاب شهود كانوا حضورًا وقت إلقاء الخطب.

ونحن وإن تعودنا على اعتبار هذه الخطب، وكأنها خطب أصيلة لا شك عندنا في أصالتها ولا شبهة. لكننا لا نستطيع إقناع أنفسنا ولا غيرنا بصحة رأينا هذا.

وإذا كنا قد قبلنا ما قيل لنا عن الشعر الجاهلي، فإننا لا نتمكن من قبول ما يذهب إليه الأدباء المقلدون من أن الخطب المنسوبة إلى خطباء الجاهلية، هي نصوص دقيقة صحيحة، أو أن أكثرها صحيح لا شك لأحد في صحته، وذلك لأسباب: منها ما ذكره أهل الأخبار أنفسهم من قولهم: "وكان الخطيبُ من العرب إذا ارتجل خطبة ثم أعادها زاد فيها ونقص"١، ثم ما نجده من اختلاف في رواية خطبة "قس بن ساعدة"، ومنهم أناس حضروا خطابه، فكيف نصدق صحة نصوص خطب لأناس جاهليين تبلغ عدة صفحات.

وكيف يصدق إنسان بصحة ما ينسب إلى الجاهليين من خطب وأقوال، وهو يعلم أن خطبة "حجة الوداع"، قد اختلف الرواة في رواية نصها اختلافًا كبيرًا٢، وإذا كانوا قد اختلفوا في ضبط نص خطبة تعد من أهم خطب الرسول، لما جاء فيها من بيان وأحكام، وكلام الرسول أفضل كلام للمسلم، فهل يعقل أخذ موضوع صحة نصوص خطب الجاهليين، على أنه كلام صحيح بالنص والحرف والمعنى! وإذا كان المسلمون قد جوزوا رواية حديث رسول الله بالمعنى، لصعوبة الرواية بالحرف والكلم والنص، فهل يعقل ضبط الناس لخطب الجاهليين، ضبطًا تامًّا كاملًا بالحرف والمعنى، مع أن كلام أهل الجاهلية لا يقاس بكلام الرسول في نظر المسلمين من دون شك.


١ اللسان "١٢/ ٣٤"، "أمم".
٢ راجع نصها في تاريخ اليعقوبي "٢/ ٩٩ وما بعدها"، "طبعة النجف".

<<  <  ج: ص:  >  >>