والأمر بالنسبة للشعر الجاهلي من حيث الصنعة والافتعال أهون أمرًا في نظري من موضوع الخطب الجاهلية، فالشعر كلام موزون مقفى وهو غير طويل، يمكن حفظه بسهولة، ويمكن خزنه في الذهن أمدًا طويلًا، أما النثر، فليس من السهل حفظه حرفيًّا؛ وإذا حفظ، فلا يمكن للذاكرة مهما كانت قوية أن تحافظ على صفائه إلى أجل طويل، لا سيما إذا كانت الخطب طويلة، لا تعاد قراءتها إلا في المناسبات. وللسبب المذكور ولخوف المسلمين من التقول على الرسول بما لم يقله من حروف وألفاظ وجمل، جوّزوا رواية حديثه بالمعنى، لصعوبة حفظ النص، فهل تعد خطب الجاهليين أكثر أهمية من حديث الرسول، حتى نقول: إنها نصوص مضبوطة صحيحة، لا غبار على صحتها، ولا شك من نصها!
وطابع الخطب، السجع وقصر الجمل والإكثار من الحكم والأمثال، والتفصيل والازدواج. ويرد غالب السجع في كلام الكهان لذلك وسم بهم، فقيل:"سجع الكهان". والسجع في كلام العرب أن يأتلف أواخر الكلم على نسق كما تأتلف القوافي، وأن يكون في الكلام فواصل كفواصل الشعر من غير وزن. وذكر أن الرسول قال لأحدهم وكان يتكلم سجعًا:"أسجع كسجع الكهان! " وفي رواية "إياكم وسجع الكهان"، وفي الحديث أنه نهى عن السجع في الدعاء. وإنما كره السجع في الكلام لمشاكلته كلام الكهنة١. قال "الجاحظ": "وكان الذي كرّه الأسجاع بعينها وإن كانت دون الشعر في التكلف والصنعة، أن كهّان العرب الذين كان أكثر الجاهلية يتحاكمون إليهم، وكانوا يدعون الكهانة وأن مع كل واحد منهم رئيًا من الجنّ، مثل حازي جُهينة، ومثل شق وسطيح، وعزى سلمة وأشباههم، كانوا يتكهنون ويحكمون بالأسجاع؛ كقوله: والأرض والسماء، والعقاب الصقعاء، واقعة ببقعاء، لقد نفر المجدُ بني العشراء، للمجد والسّناء". "فوقع النهي في ذلك الدهر لقرب عهدهم بالجاهلية، ولبقيتها فيهم