للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وفي صدور كثير منهم، فلما زالت العِلّة زال التحريم". وقد كانت الخطباء تتكلم عند الخلفاء الراشدين، فيكون في ذلك الخطب أسجاع كثيرة، فلا ينهونهم١.

واتبع الخطباء في الإسلام وبعض الكتاب أسلوب السجع في خطبهم وفي كتبهم، ولا زال السجع محبوبًا عند كثير من الناس، ولهذا فهم يكتبون به.

وأغلب الخطباء هم سادات قبائل وأشراف من أهل القرى ومن أصحاب المكانة والجاه والكهنة والحكام. ومنازلهم تحتم عليهم الخطابة في المناسبات، لأنهم ألسنة قومهم، فللكلام أثر في نفوس العرب، يثير الحرب ويهدئ الأعصاب ويعقد السلم، ويفض المشكل، فصار من ثم للخطيب أثر كبير في الجاهلية.

وكانت القبائل تفتخر بكثرة ما عندها من خطباء. وذكر "الجاحظ" أن رجلًا من حمير قام في مجلس لمعاوية اجتمع فيه الخطباء، فقال: إنا لا نطيق أفواه الكِمال، عليهم المقال، وعلينا الفعال٢. ومعناه: إنا لا نستطيع الكلام كما يفعل غيرنا، ولذلك فأنا لا أريد أن أتسابق معهم، ثم أننا معشر عمل لا قول.

و"الكمال"، بمعنى الجمال، جمع جمل، نطق بها بالكاف على لغة أهل اليمن القديمة، لأن لسان حمير ينطق الجيم كافًا مفخمة.

ويلاحظ أن أكثر الذي ذكره أهل الأخبار من كلام الخطباء، هو وصايا زعم أهل الأخبار أن أولئك الخطباء أوصوا بها أبناءهم، وذلك حين تقدمت بهم السن، وحين شعروا بدنوا أجلهم. وهي تمثل خلاصة تجارب الموصى ومجمل ما حصل عليه من اختبارات في هذه الحياة. وهي على الجملة حكم، وآراء في الدنيا، ومواعظ، لا تخطر إلا على بال رجل سئم من الحياة ويئس منها، أو من زاهد متصوف متدين يؤمن بإلَه وبحساب وكتاب، وجد أن الحياة مدبرة، وأنها زائلة فانية، لا تدوم لأحد، لذلك يريد أن يوصي أبناءه بما وجده فيها وخبره ورآه.

ولم يهمل أهل الأخبار ذكر أهل العي والبلادة، وهم على قلتهم وضآلة


١ البيان والتبيين "١/ ٢٩٠".
٢ البيان والتبيين "١/ ٣٩٨".

<<  <  ج: ص:  >  >>