وقد صار النقط، أو وضع الحركات على الحروف لإرشاد القارئ إلى القراءة الفصيحة الصحيحة، ضرورة لازمة، بدونها قد يخطئ الإنسان فهم المعنى، وقد يقع في أخطاء جسيمة لو أخليت الكتابة من النقط والإعجام. وقد ضرب العلماء الأمثال على أخطاء وقع بها الناس بسبب طريقة الكتابة القديمة التي لم تكن تنقط الحروف ولا تعجمها، فكان القارئ يقع في أخطاء.
والإعراب بعد، لا يختص بالعربية وحدها، بل نجد آثاره في لغات سامية أخرى، وإنما ظهر وعرف في عربيتنا، لأن اللغات الأخرى قد ماتت في الغالب، فلم يبق أحد من الناطقين بها، لنتبين كلامه، ولأن نصوصها غير مشكلة، وهي خالية من الحروف التي تدل على الشكل والحركات، لذلك لا نستطيع التحدث عن وجود الإعراب بها. ولكن بعض النصوص البابلية تشير إلى وجود الإعراب بها، واللاتينية مع أنها من اللغات الآرية فهي لغة معربة، يراعي الكاتبون والمتكلمون بها خصائص الإعراب، واليونانية القديمة هي معربة كذلك. ويخيل لي أن معظم لغات الأدب في العالم القديم كانت تراعي الإعراب، لترتفع بذلك عن ألسنة العامة، ولتكون اللسان الرفيع الذي يخاطب الإنسان به أربابه، ثم خفت حدة الإعراب فيما بعد، مجاراة لتطور العقل الإنساني. ونجد معظم الشعوب في الوقت الحاضر، تبسط لغتها وتختزل قواعدها وجمل كلامها ليتناسب الكلام مع عقلية السرعة التي أخذت تسيطر على الإنسان الحاضر.
وما قلته عن اللغات الأخرى من صعوبة التكلم عن إعرابها، بسبب عدم وجود نصوص مشكلة عندنا تشير إلى طرق الإعراب بها، ينطبق كذلك على اللغات العربية الجنوبية، وعلى اللغات الأخرى، مثل الصفوية، والثمودية واللحيانية، لعدم وجود الحركات بها أو العلامات الدالة على الإعراب. وخلو هذه اللغات من العلامات التي تقوم الإعراب، لا يمكن أن يُتَّخذ دليلا على عدم وجوده في تلك اللغات، لأن العماد في الإعراب، هو بالنطق في اللسان، وهو ما لا يمكن استخراجه من الكتابة العربية الجنوبية، فاللسان هو الذي يشكل ويحرك الألفاظ وفق مقتضيات قواعد الألسنة: أما النبطية، وهي من اللهجات العربية الشمالية، ففيها ظواهر بارزة تشير إلى أنها كانت لغة معربة، وهي في نظري أقرب اللغات العربية الجاهلية إلى عربية القرآن الكريم، فالأسماء في النبطية، معروفة في عربيتنا قليلة في العربيات الأخرى، وهي قريبة من هذه العربية في أمور أخرى نحوية وصرفية.