للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولا أَجِدُ في كلام قدماء العلماء القائل أن الذي وصل إلينا من أمر الشعر الجاهلي والشعراء الجاهليين، هو قليل جدًّا من كثير جدًّا، وأن الذي فات عن علم العلماء من أمر الشعراء الجاهليين أكثر بكثير مما بقي، أية مبالغة أو تهويل، لأننا نجد في الموارد التي تتحدث عن الصحابة أو عن الأخبار، أسماء رجال كانوا شعراء، لا نجد لها وجودا في كتب الشعر، ثم إن علماء الشعر أنفسهم يعترفون في كتبهم ودفاترهم، أنهم لم يدونوا من أسماء الشعراء إلا من اشتهر أمره وعرف بغزارة شعره، أما من كان دون هؤلاء، فإنهم لم يتحرشوا بهم، إذ لو تعرضوا بهم لاحتاجوا إلى تدوين كتب ضخمة في الشعر والشعراء، أضف إلى ذلك موت ذكر كثير من الشعراء، بسبب عدم وجود التدوين قبل أيام التدوين وعجز الذاكرة عن المحافظة على أسماء الشعراء وعلى شعرهم إلى أمد طويل. ثم أن الشعر سليقة عند العرب، وبديهة، وقلما نقرأ اسم رجل من أهل الجاهلية، إلا وقد نسب له أهل الأخبار البيت أو البيتين، أو أكثر من ذلك من الشعر.

ونحن لا نذكر هنا من الشعراء إلا من نبه منهم، وترك أثرًا في الأدب العربي إلى يومنا هذا.

وقد جرت العادة بأن يدرس الشعر الجاهلي على أسلوب الجادة القديمة، بالاعتماد على الروايات المدونة عنه في الموارد الإسلامية القديمة، وهي روايات لاقت رواجًا كبيرًا بين المعنيين في الشعر الجاهلي، حتى صارت في درجة القضايا البديهية المسلم بصحتها، مع أنها في الواقع أخبار آحاد، وردت في كتب إسلامية قديمة نقلها عنها المؤلفون المتأخرون عن المؤلفين القدماء مع أن الصحيح هو في وجوب درس الشعر الجاهلي، على ضوء شعر المخضرمين والشعراء الإسلاميين الذين عاشوا في صدر الإسلام، وعلى ضوء الدراسات المعروفة عن الشعر عند الساميين، مثل شعر السريان الذي يأخذ أيضًا بالوزن والقافية وله مصطلحات قديمة في الشعر تعود إلى ما قبل الإسلام، ثم الشعر العبراني والشعر البابلي وشعر بقية الساميين.

وفي دراسة شعر القبائل الحاضرة المنزوية في جزيرة العرب، فائدة كبيرة في تشخيص الشعر الجاهلي، لأنها -ولاسيما القبائل القابعة في العربية الجنوبية- لا زالت تنظم الشعر متأثرة بالقوالب القديمة وببحور جاهلية لم يحفل بها "الخليل" أو أنه لم يقف عليها، ففات أمرها على العلماء، وعدت من الشعر العامي المبتذل.

<<  <  ج: ص:  >  >>