ولا يعني هذا أن الشعراء كانوا كلهم من أرقى الناس عقلا، ومن أفهم الناس إدراكًا، ومن أعلمهم بالأمور وأبصرهم بالمعرفة، فبينهم ولا شك تفاوت في الإدراك، وفي مجتمعهم من هو أرقى منهم عقلا وأكثر منهم إدراكا، وهم مع ذلك لا يقولون الشعر أو لا يمارسونه، مثل الحكام والكهنة، وأصحاب الآراء، وإنما الشعر، ملكة، لا تكون إلا عند صاحب حس مرهف، ولا تظهر إلا في إنسان ذكي فطن لبيب، يذل الألفاظ والأبيات، لتنصاع لإرادته، فيخرجها أبياتًا وقصائد تعبر عن مشاعره ومداركه. فالشاعر من هنا من أذكى الناس، ومن أهل الإدراك والمعرفة.
والشعر ككل المبرزين من طبقات مختلفة تباينت في السويات، منهم من نبت من عائلة شريفة، ومنهم من نبت من عائلة أعرابية، ومنهم من نبغ من بيت فقير. وقد سمى أهل الأخبار شعراء بأسمائهم كانوا من أشراف قومهم، وسموا شعراء كانوا من أوساط أقوامهم، أو من النابتة، فالنبوغ لا يختص بجماعة دون جماعة، ولا بطبقة دون طبقة.
وشعر الشاعر هو دليل عقليته ومقدار مداركه، ولهذا تباين واختلف، فنجد في شعر شعراء البادية الروح الأعرابية والخشونة تتجسم في المعاني وفي الألفاظ، ونجد في شعر الحضر أثر النفس الحضرية، ونرى في شعر الجوابين القاصدين للملوك، والذاهبين إلى الحضر والأعاجم، أثر اختلاطهم بهم في شعرهم، كما هو في شعر الأعشى.
والشعراء الجاهليون، هم من قبائل متعددة ذات لهجات وحروف في الكلام مختلفة، ولكننا نرى أن لغة شعرهم وطريقة نظمهم واحدة، لا فرق فيها بين قحطاني وعدناني، ولا بين شاعر من عرب العراق أو بلاد الشأم وشاعر من أهل اليمن أو الحجاز أو نجد. ومعنى هذا أن الشعراء كانوا إذا نظموا شعرا، نظموه ببحور معروفة مقررة، وبلغة عالية، سمت فوق لهجات القبائل، على نحو ما نفعل في الزمن الحاضر من استعمال لغة عربية فصيحة هي لغة القرآن الكريم في النظم والنثر والإذاعة وما شابه ذلك من وسائل الإيضاح والإعلان، ومن استعمال لهجات محلية في الحياة اليومية الاعتيادية في مثل البيت والسوق والتفاهم بين الناس
ولكن هذا لا يعني أن الشعراء لم يكونوا ينظمون الشعر بألسنتهم القبلية،